أجرته: نسرين عوّاد
مواليد غزة-1976
البدايات:
ما هي اهم المراحل المبكرة في مسيرتك الفنية وإدراكك المبكر لموهبتك الفنية؟
بدأت أدرك هذه الموهبة الفنية البصرية التي امتلكها في عمر التسع سنوات، اي في مرحلة الانتفاضة الأولى في فلسطين، حيث تعزز ذلك من التفات واهتمام اساتذتي بأناقة خطي وجمال رسم الخط لدي، غير أنني لم أولِ ذلك أهمية آنذاك كوني كنت مجتهداً جداً في الدراسة وتحديداً في المواد العلمية كالرياضيات والفيزياء.
بدأت حاجتي الماسة للتعبير عن نفسي وعما أشعر به من خلال الرسم تتجلى بوضوح في مرحلة الانتفاضة الأولى وتحديداً في فترات منع التجول التي كان يفرضها الإحتلال الاسرائيلي على السكان الفلسطينين وهي فترات عصيبة وطويلة، حيث كنت أعاني جدا في تلك المرحلة بسبب منعي من الخروج من المنزل لأيام، ما سبب لي كآبة عالية، حتى مجرد التفكير بأن يوماً جديداً سيأتي وسأمنع فيه من الخروج من البيت هو بمثابة عذاب إضافي.
في طفولتي يوم منع التجول يعني يوم معتم، يوم لاضوء فيه، لا خروج لا مدرسة ولا رؤية لبنت الجيران التي كنت أحبها آنذاك، لذلك كان الهروب إلى مكتبة والدي الممتلئة بالكتب المصرية القديمة والمجلات العربية، هي الملجأ الوحيد بالنسبة لي، لذلك بدأت بالهرب الى الزاوية الاخيرة من البيت حيث المكتبة وهو هروب رمزي من الاحتلال والإنشغال بالقراءة لمجموعة الروايات في المكتبة.
كنت أحب قراءة الروايات ليس فقط لأنني أحب القراءة بل بسبب شغفي بالرسم التوضيحي الذي تتضمنه هذه النسخ من الروايات كل خمس صفحات تقريباً، فالصورة كانت شحيحة آنذاك.
وهكذا امضي معظم وقتي الطويل والكئيب في البيت خلال فترات منع التجول الاسرائيلي، ولم تكن قنوات التلفزة آنذاك شائعة كما هي عليه الآن، لذلك وجدت في هذه الكتب ملجأي للهرب من كل هذه الظروف.
بدايات الرسم:
في هذه المرحلة من طفولتي وهي مرحلة منع التجول والهرب باتجاه مكتبة والدي بدأت بالرسم أيضا، كنت أحب حصة درس الرسم في المدرسة، ويعجبني اطراء المدرسين على حسن الخط وجمال الرسم لدي، بالرغم من كون الرسم لم يكن انذاك بالنسبة لي هواية يومية أمارسها .
ولكن الظروف السياسية التي كنا نمر بها ومنع التجول الذي كان يمتد لأكثر من عشرين يوما، خلال مناسبات سنوية ينتظرها الطفل كعطلة العيد والعطلة الصيفية وغيرها كانت الشرارة الاولى التي اشعلت موهبة الرسم لدي.
في هذا السياق وبعد تأملي بتجربتي الانسانية والفنية، أنا مؤمن بأن الفن هو حاجة انسانية، فعندما يحتاج الانسان للتعبير عما يشعر به يبدأ بالبحث عن الادوات والتي قد يكون الفن البصري أحدها.
أول قصة حب:
في تلك الفترة من طفولتي وعندما كنت في الثانية عشرة من العمر بنيت علاقة حب مع بنت الجيران التي كنت اتشارك واياها حب المطالعة والقراءة وكنا نتبادل الرسائل كأبناء جيلنا آنذاك، أذكر أنني في احدى الرسائل التي ارسلتها اليها كنت قد كتبت بأنني سأصبح يوماً ما فناناً وسيكون مرسمي في باريس.
تزامن ذلك مع تطور احساسي اتجاه الفن والرسم وحاجتي لإيجاد متنفس للوحاتي الفنية وضرورة خروجها الى العلن، فبدأت بتنفيذ كل ما تحتاجه المدرسة من مجلات الحائط بطرق فنية، وبدأت بالبحث عن كتب في الفن وكانت الكتب الوحيدة التي وجدتها هي كتب الخط العربي آنذاك ؛فبدأت بالتقليد والرسم.
اعتراف المحيط بالموهبة الفنية:
أنا من الفنانين الذين لا يحبون الخلطات الجاهزة، أو بالأصح لا أقف عند التقنية أو الخلطة التي اتبعتها سابقاً، فالتجربة البصرية والشغف يدفعني دائما للبحث عن الجديد وما يحمله هذا الجديد من متعة
في هذه المرحلة أيضاً وأثناء فترة المدرسة، عملت في مكتبة قرطاسية بوظيفة كتابة وتخطيط الاعلانات التي تحتاجها المكتبة بالخط الذي اتقنه، إلا أنني اذكر بأن معظم ما كنت أجنيه من عملي قد انفقته على شراء كاستيات الاغاني، وقد اصبحت معروفاً في منطقتي بتنفيذ مجلات الحائط ليس فقط في مدرستي وانما في معظم المدارس المحطية وبذلك حظيت بهذا الاعتراف بموهبتي
.
السياسة والفن:
في سن الأربعة عشر عاما وتحديداً في سن المراهقة أصبح يتشكل لدي الحس الوطني والسياسي، فمعظم اصدقائي اصبحوا منظمين حزبياً ومنتمين فصائلياً، وبدأوا يطلبون مني كتابة الشعارات ورسم الرموز التي تحتاجها الفصائل السياسية الفلسطينية آنذاك على الجدران في الفضاءات العامة، حتى أنني كنت أقوم برسم وتصميم البوسترات الخاصة بتلك الاحزاب السياسية الفلسطينية، حيث كانت الفصائل تتنافس فيما بينها حول انتاج الملصق الاجمل والاقوى في التعبير، كما كانت تطبع هذه الملصقات بأحجام كبيرة لكن دون ذكر اسم الفاعل!
الرموز والعناصر التي كنت اضمنها في الملصق هي العناصر اليومية في الوعي البصري الفلسطيني كصورة المسجد الاقصى وقبة الصخرة والأسر والفدائي … وغيرها من الايقونات البصرية الوطنية التي كانت شائعة آنذاك في الموروث البصري المقاوم، وفعلاً كنت سعيداً آنذاك كوني امتلك هذا المتنفس، الذي من خلاله تمكنت من التعبير عن نفسي.
في هذه المرحلة من عمري أيضا سمعت عن جمعية الشبان المسيحية في غزة التي تعطي دورات في الفنون البصرية، ومعظم أبناء جيلي الفنانين من غزة تلقوا دورات في هذه الجمعية، فطلبت من والدي فرصة الالتحاق فيها لتلقي دروس الرسم، الا أنه امتنع وأخبرني بصعوبة الأمر لعدة اسباب، كطول المسافة بين رفح وغزة، وخطورة الطريق بالاضافة لارتفاع تكلفة اسعار المواصلات التي تفوق امكانيات عائلتي المادية، ما تسبب لي بخيبة امل كبيرة، الا انني واصلت الرسم من خلال حياتي المعتادة، لكن افتقدت لأي توجيه اكاديمي أو احترافي لي في تلك المرحلة.
اللقاء الأول مع فنان:
كنت في صف التوجيهي عندما التقيت لأول مرة بشخص خريج من كلية الفنون ، عن طريق خالد ابو نحلة أول المؤمنين بموهبتي الفنية وصاحب المكتبة التي كانت أول الآبار التي غرفت منها الموسيقى والأدوات الفنية البسيطة مقابل مجلات الحائط التي كنت أصنعها، حيث كان خالد يعرف هذا الشغف الذي أعيشه للفن والذي عرفني على أخيه خريج الفنون من ليبيا مجرد رجوعه إلى رفح، وكان أول شخص يحمل شهادة في الفنون البصرية يشاهد رسوماتي، وتغذي شجعني حينها كثيراً بعد اعجابه بها.
القرار:
عندما أنهيت دراستي واجتزت الثانوية العامة، اخبرت والدي انني سأدرس الفن، رغم اعتقاد أبي السابق بأني سأدرس الطب بناءً على رغبته كوني من المجتهدين في الدراسة ولكن ما صدمني فعلا هو اجابة والدي عندما قال لي ” يابا انت بتفكر الفن أسهل من الطب؟!” الفن اصعب من الطب ولكن عموماً هذه حياتك وانت حر فيها.
ما هو تصورك عن الفن البصري في هذه المرحلة المبكرة من مسيرتك الفنية؟
تصوري تشكل من خلال الكتب والروايات والأدب العربي الذي كنت شغوف بقراءته، أما رؤيتي للفن فكانت حالمة رومانسية انا الطفل الذي كنت اعيش في المخيم، ولم أكن اعرف فناناً بصرياً واحداً، اما أدواتي فكانت ورقة ومسطرة وقلم رصاص والوان شمع رديئة الجودة، وبالرغم من ذلك كانت عندي نبوئتي بأنني ساصبح يوماً ما فناناً، فلسفتي تقول: إن قوة الروح هي التي تستدعي الأدوات وليس العكس.
قسوة الحياة في مرحلة الجامعة وضعف محتوى التدريس:
لم يتوفر في قطاع غزة في ذلك الوقت كليات جامعية لتدريس الفنون البصرية، والخيار الوحيد الذي توفر لدي حينها كان جامعة النجاح الوطنية في نابلس في الضفة الغربية، في ذلك الوقت دراستي في الجامعة كانت ذات معنى كبير بالنسبة لي، بالرغم من صعوبة الاقامة في نابلس او حتى الوصول إلى الجامعة بسبب اجراءات الاحتلال الاسرائيلي وصعوبة الحصول على تصاريح للطلاب للخروج من غزة إلى الضفة الغربية. وأنا مؤمن بأن التقسيم بين غزة والضفة كان قد بدأ منذ زمن بعيد والذي يتجلى الآن بأصعب صوره.
سلسلة عثرات ونكسات:
عثرتي ونكستي الاولى كانت بصعوبة الوصول الى الجامعة من غزة الى نابلس بسبب قيود الاحتلال الاسرائيلي التي لاحقتني منذ اليوم الأول أثناء تقديم امتحان القبول في كلية الفنون الجميلة، ففي أول يوم وصلت فيه لتقديم هذا الامتحان كانت الطريق شاقة، وطبيعة الامتحان مفاجأة والجو الأكاديمي غريب بالنسبة لي فأنا لم اعتد أن ارى “موديل” واقوم برسمه في قاعة.
أذكر حينها أن استاذ احمد حاج حمد في كلية الفنون كان مراقباً علينا هو واستاذ محمد ابو سته ونتائج امتحان القبول عادة كانت تنشر بعد أيام في الصحف، وبسبب قدومي الى الامتحان عن طريق التهريب من غزة الى نابلس فقد كان بادياً علي القلق والتوتر، واذا بأستاذ أحمد انتبه الى حالة ارتباكي وسألني عن السبب، فاخبرته بظروفي، ليبادر مباشرة وانا بالقاعة بطمأنتي بنجاحي في الامتحان وبضرورة عودتي الى القطاع وأنا مطمئن.
في تلك الفترة من دراستي الجامعية في كلية الفنون الجميلة في جامعة النجاح الوطنية، بدأت بالالتقاء بأبناء جيلي من الفنانين البصريين كـ معين حسونة، وميسرة بارود، ورأفت اسعد، وايمن عيسى، ورقية اللولو، ومحمد لبد، وبشار الحروب ومنذر جوابرة ..وغيرهم كثر. وكنت انا الوحيد من بين القادمين من غزة الذي لم يلتحق بدورات تعلم فنون في جمعية الشبان المسيحية في غزة.
ماذا كان تخصصك في كلية الفنون الجميلة في الجامعة؟
تخصصت في التصوير الزيتي وكانت هذه المرة الأولى، التي أتعامل فيها مباشرة مع خامات الرسم كالالوان الزيتية والقماش وغيرها.
درست مساق الديكور مع استاذ كامل المغني الذي حاول اقناعي التخصص به اعتقاداً منه أنني سأبدع في هذا المجال، إلا أنني رفضت كوني لم اتخيل نفسي سأذهب باتجاه المسطرة والقلم..
في هذه المرحلة كان الاحساس بالغربة كبيراً، ومع أنها كانت بداية تطبيق “اتفاقية أوسلو” إلا أنني رجعت بطريقة غير شرعية إلى نابلس للالتحاق بالفصل الدراسي الأول وكان الاحتلال الاسرائيلي يحول وصولي اليهم بشكل دوري، إضافة الى حادث العمل الذي حصل مع والدي والذي أوقفه عن العمل نهائياً، وطلبه مني العودة الى المنزل كونه لن يستطيع توفير رسوم دراستي الجامعية، دفعتني هذه الظروف بمجملها لاتخاذ أهم قرار شخصي وهو مواصلتي دراستي وتحمل تكاليف هذه الدراسة بالاعتماد على ذاتي التي لم تعرف يوماً هكذا حياة.
هذا الطفل الرومانسي المحب للموسيقى والقراءة، هاهو يصبح فجأة مطالباً بتوفير مورد مالي والاعتماد الكلي على نفسه، وهذا كان تحدي كبير جداً بحياتي حيث بدأت بالعمل في إحدى المطاعم بتنظيف الأواني، ما افقدني متعة الحياة الجامعية الاجتماعية كباقي الطلاب، وكانت هذه اولى مراحل احساسي بالحرمان، فأنا حرمت من حياة طالب الفن، وطالب الجامعة، وكنت مطالباً بالتوجه الى مكان عملي بالمطعم للعمل حتى منتصف ساعات الليل وبعد ذلك التوجه الى الجامعة صباحاً.
هذه الظروف دفعتني مبكراً للوعي على صعوبة الحياة وقسوتها ما دفعني للإحساس بأن انتهائي من مرحلة دراسة الجامعة هي بمثابة انعتاق من قيود ومسؤوليات كانت ملقاة علي، مقارنة بأقراني الذين كانوا متاخرين عني في هذه المواجهة مع الحياة .
كيف كنت تحفز ذاتك على المواصلة واكمال المشوار؟
أنا الذي اخترت هذا الطريق وانا الذي سأدفع ثمنه!
في مرحلة الدراسة الجامعية هل تأثرت بأسلوب او باعمال فنان ما؟
لنكن صريحين وهذه الصراحة ليست بهدف التجريح وإنما للاجيال القادمة، كانت مرحلة الجامعة بالنسبة لي مرحلة عصيبة على المستوى الشخصي وفقيرة على المستوى الفني، توقعت الكثير من الامور كشاب آت من غزة لدراسة الفنون البصرية في جامعة النجاح في نابلس إلا أنها لم تكن حسب ما توقعت وهذا ما أدركته بشكلٍ واضح في السنة الأخيرة من الدراسة.
فمثلاً توقفت نماذج الفنانين البصريين في التدريس في الجامعة عند مرحلة “بيكاسو” ما تسبب بتغييب مراحل لاحقة وطويلة من الانتاج البصري بعد بيكاسو لا يعرف عنها الطالب شيء، وبالرغم من كل هذا لا يمكن أن انكر ما اعطتني إياه الجامعة من تقنيات كاستخدام الفرشاة أو التظليل وغيرها من الأساسيات.
بالرغم مما سبق إلا أنني بالمقابل أدرك تماماً أن أية جامعة ومهما كانت امكانياتها عالية فإنها لا تسطتيع ان تخلق فناناً، ففي النهاية أن تكون فناناً هذا قرار شخصي يجب أن تلاحقه أنت ولا تنتظر أحداً أن يهبك إياه.
بعد هذه التجربة أصبحت أؤمن بالبحث لا بالموهبة وأن بحثك عن ذاتك لابد وأن يكون موازياً لبحثك بالفن. فهناك فناناً يعمل كثيراً وآخراً لا يعمل، وبالعودة الى مرحلة دراستي كانت هناك لي أمنية شخصية فإنني كنت أتمنى أن يكون أحد اساتذتي في الفنون هو فنان كبير، وليست مجرد استاذ محترف ومنقطع عن ممارسة الفن.
الإنعتاق والتخرج:
عندما أنهيت دراستي وتخرجت من جامعة النجاح الوطنية في عام 1999، كان هدفي فقط مغادرة مدينة نابلس والابتعاد عن كل ما حملته أقامتي ودراستي فيها من الم ومعاناة، بالإضافة إلى رغبتي بالإبتعاد كلياً عن الجامعة حتى أبدأ بالبحث عن نفسي دون اية رقابة اكاديمية من الجامعة.
في هذه المرحلة وبعد عملي في مطبعة الحجاوي كمصمم في السنة الأخيرة لي في نابلس، عرضت عليّ وظيفة كمدير فني في مطبعة يريد أن ينشأها أحد زبائن المطبعة التي كنت أعمل بها في مدينة الناصرة، وفعلا قررت التوجه هناك كونها فرصة لا تفوت بالنسبة لي آنذاك، بالاضافة الى عملي كمدرس للفنون في مدارس التربية والتعليم الرسمية في منطقة جنين، الا أن القدر كان بالمرصاد وبعد يومين من زيارة المطبعة وقسمها الفني التي كنت سأديره في مدينة الناصرة، اندلعت احداث الانتفاضة الثانية عام 2000 وبدأت مرحلة جديدة أخرى من الإحباط! في هذه الفترة كنت أقيم في قرية برقين القريبة من المدينة ومخيمها وأجبرت غصباً أن الرضا تدريس التربية الفنية فقط في مدرستي “كُفردان” و “دير أبو ضعيف”.
المشروع الفني الأول:
في هذه المرحلة بدأت ببحثي الفني الأول، والذي تجسد في معرضي الأول في آيار 2001 والذي كان باسم “حلم وبعد” الذي لم يكن يتحدث عن الوضع السياسي فقط وأحداث الانتفاضة الثانية، وانما كان يتحدث عن هواجسي وعن تأثير هذه الاوضاع السياسية علي وعلى مسار حياتي، تأثرت في هذا المعرض برمزية وتكوينات اللوحة الفلسطينية آن آنذاك .. وأفتتح حينها في المركز الفرنسي في مدينة رام الله وبالتعاون مع مؤسسة عبد المحسن القطان، والذي كان بمثابة الخطوة الأولى مع انتقال عملي أيضاً من مدرس في منطقة جنين الى مدينة رام الله تحديداً في مركز تطوير المناهج التابع لوزارة التربية والتعليم أيضاً.
مرحلة رام الله:
أهلني معرضي الفردي “حلم وبعد” للتقدم والمشاركة في مسابقة الفنان الشاب التابعة لمؤسسة عبد المحسن القطان في عام 2002، إلا أن القدر مرة أخرى كان لي بالمرصاد حيث تعرضت لنكسة نفسية كبيرة جراء اعتقالي من قبل قوات الاحتلال الاسرائيلي ل 53 يوماً، في الوقت الذي كنت اعمل فيه على مشروع المسابقة بعد أن تم اختياري في القائمة النهائية للعشرة فنانين المشاركين.
تجربة اعتقالي من قبل الاحتلال الاسرائيلي كانت قاسية جداً، والألم كان كبيراً من الفعل نفسه بشكل خاص ومن الحالة السياسية التي مرت بها كل مدن الضفة وغزة في ذلك الحين بشكل عام، حيث كنت حينها كطائر محلق يصنع ضوءه وفجاءة جاء من شدني بحبل وبقوة للارتطام بالأرض، وكنت أعرف أن هذه التجربة القاسية سوف تكون مفصلية في حياتي لأنني من الاشخاص الذين لا يستطيعون الاكتفاء بالمرور السريع على المحطات.
في حينه وبعد الخروج من المعتقل تقدمت لمحمود أبو هشهش مدير برنامج الثقافة والفنون في المؤسسة بالاعتذار وعدم القدرة على المشاركة في المسابقة وخاصة لتدمير كل شيئ تم العمل عليه في المرسم ومن التعب الذي كنت عليه، إلا انهم رفضوا اعتذاري من باب تقوية عزيمتي وارادتي وأنه يمكنني عدم التقيد بما قدمته والعمل على أي فكرة أخرى حسب رغبتي. وبالرغم من ذلك وبعد أكثر من 15 عام على تجربة الإعتقال إلا أنني غير قادر حتى اللحظة من التعبير بصرياً عن هذه التجربة.
افتقدت في تلك المرحلة القدرة على العمل إلا أن تأثير الاخرين وتمديد مؤسسة القطان لفترة المسابقة لفترتة شهرين إضافيين، أعطاني الطاقة لإنجاز مشروعي الفني في شهر ونصف، ولربما كان يتبع ما قدمته في معرضي الأول؛ إلا أنه كان للأسف من اكثر مشاريعي الفنية التي لا أشعر بالانتماء إليها وكأن شخصاً آخراً هو من قام بذلك، لدرجة أنني ولحتى هذه اللحظة عندما ارى صور لذلك المشروع الذي شاركت فيها لا أذكر كيف رسمتها ومتى رسمتها.
كان هذا المشروع الذي حمل عنوان “أغنية: بقلك لأ يعني لأ”، عاطفي للغاية ولا علاقة له بمشروعي الذي من خلاله تم اختياري من بين القائمة النهائية للمشاركة، ولم يتقدم عن معرضي الاول “حلم وبعد” بشيء لا بالعكس اعتقد أنه تراجع عنه حسب وجهة نظري، وكان عبارة عن محاكاة رمزية ركيكة وهشة لحالة الاعتقال.
من زاوية أخرى أرى أن هذه التجربة كانت مهمة جداً في حياتي ومسيرتي الفنية لأنني ومن خلالها التقيت الفنان البصري كمال بلاطة، بصفته أحد اعضاء لجنة التحكيم للمسابقة، وفي المقابلة مع لجنة التحيكم والتي كانت الوحيدة حيث سبقت اعلان النتائج بيوم، بدأ حينها كمال بلاطة وبحنكة فظيعة جرّ للحديث عن تفاصيل التفاصيل للتجربة، وكنت بدوري أجيب بحساسية وعاطفة شديدتين عن تلك التفاصيل التي كانت ما زالت حاضرة في نفسي … حينها وعندما انتهيت قال لي كمال بُلّاطة وبشكل غير متوقع مني: “انت مش لازم تكون رسام لازم ترمي الفراشي والألوان، وتكون كاتب لأنك بتحكي منيح “! وأذكر انني لم أتمالك روحي وذهبت بإعطائهم ظهري باكياً قبل الخروج من القاعة، هذه العبارة سقطت علي كالقنبلة، وأعطاني من خلالها درساً هاماً استغرقني بعض الوقت لفهمه، وهو أن يعي الفرق الذي يكاد أن يكون معدوماً بين الأدب والفنون، وأن يكون لديه القدرة بخلق ذاك الخيط الرفيع بين فنه وذاته.
بالمناسبة أنا لم أفز بالجائزة في المسابقة ولكن عبارة كمال بُلّاطة التي قالها لي كانت هي الجائزة، وشاءت الاقدار ان هذا الشخص ذاته ألّفَ عن تجربتي الفنية البصرية دراسة شاملة في كتاب (بين المخارج: لوحات لهاني زعرب) والتي غطت تجربتي بين العام 2002-2012 وقد نشرها ذار نشر متحصصة بالكتب الفنية بلاك دوغ في لندن في نوڤمبر 2012 .
في عام 2003 لم ارسم اية لوحة، ولا يوجد لدي أي عمل فني مؤرخ بهذه السنة ولا سبب واضح لذلك، سوى تراكم التجارب المؤلمة التي مررت بها، تحديداً أنني لست من الاشخاص الذين يتجاهلون الاخرين وآرائهم، وخاصة العظماء منهم،، كما أنني أخذت هذه العبارة على محمل الجد، وتأملتها كثيراً لأبدأ في عام 2004 العمل على مشروع “حصار”.
“حصار “مشروعي الفني البصري الأول الذي خرجت فيه عن السرب.
ما ميز مشروع حصار هو أنني رجعت إلى الحديث عن تجربتي ونفسي، ولكن دون استخدام أية رموز مباشرة للحصار، كيف يمكن أن أتناول موضوع الحصار وتحديداً الحصار النفسي، ولكن بمعناه الفني الذي يقتصر على شخص يحاول الخروج عن اطار اللوحة، وواصلت العمل على هذا المشروع لغاية عام 2006 وفيه أدركت وأيقنت أنني دخلت نطاق التعبيرية في الرسم.
ما هي ابرز ردود الفعل التي سمعتها حول مشروعك الفني “حصار”؟
أكثر ردود الأفعال والانطباعات من حولي وللمفاجأة لم تكن مشجعة حول المشروع، بسبب حالة وعي فنية واحدة كانت مسيطرة وسائدة، ولكن أيضاً كان هناك وعي باختلاف مشروعي الفني عن غيره، وأول النصوص التي كتبت كانت لـ محمود ابوهشهش، ووضعت في كتالوج المعرض، وبإعتقادي قد أصاب جوهر المشروع.
مع من تواصلت وتأثرت من الفنانين الفلسطينيين في تلك المرحلة؟
من أجمل الفنانين الذين تواصلوا معنا نحن الشباب، وفتحوا لنا مكتباتهم وخبرتهم ومعرفتهم وبذلوا جهداَ انسانياً رائعاً معنا هم الفنان محمد صالح خليل، و الفنان سمير سلامة، وعلاقتي كانت مع الفنان محمد صالح خليل جداً استثنائية، حيث أسسنا سوية منتدى الفنانين الصغار في مدينة رام الله، وبالرغم من اختلافي معه بضرورة انتهاجي المدرسة التجريدية إلا أنه لم يدرك آنذاك بأنه اكبر مني بعشرين عاما وبالتالي تجربته الفنية مختلفة.
مع ذلك كنت معجباً جدا بأعمال محمد صالح خليل التجريدية وكان من أكثر الاشخاص الذين دعموني فنياً ومادياً حتى فيما يتعلق بمستلزمات اللوحة والأعمال الفنية، وهو من أعطاني كما كمال بُلّاطة من أهم العبارات في مسيرتي الفنية، ففي مرة من المرات تصارعنا على لوحة واحتد النقاش وقال لي جملة جدا مهمة وهي: “الفنان الحقيقي يجب أن يكون مهوووس بعمله”، وفعلا هذا ما أعطاني القوة والطاقة لاحقاَ لكي أكون بعيداً عن العديد من الوظائف في اقامتي الجديدة في مدينة الأنوار باريس دون أوراق رسمية أو أي معيل مادي، وكل هذا بسبب هوسي في عملي الفني الذي لا اتبع فيه سوى أحساسي الشخصي.
باريس…
بدات رحلتي اتجاه باريس من خلال ترشحي للاقامة الفنية في مدينة الفنون في باريس في عام 2006 من قبل مؤسسة عبد المحسن القطان، وفعلا كان لدي الاحساس أنني ما إن ذهبت هناك فلن أعود الى فلسطين، نظراً لظروف القطاع المحاصر، وكنت فعلاً اخاف من فكرة الذهاب بلا عودة، وهي صفة ملازمة لاهالي غزة بسبب الحصار والمنع من العودة، في هذه الفترة كنت أيضاً على علاقة حب مع زوجتي صابرين، التي رفض اهلها آنذاك زواجنا بسبب تلك الأوضاع الساسية المعقدة لحاملين مثا هويتي، إلا أنني وبالرغم من كل هذا سافرت بعد افتتاح معرضي “حصار” بيومين الى باريس بعد اجراءات رسمية معقدة لتسهيل خروجي من فلسطين كحامل لهوية غزة، وبعد وصولي الى باريس بعدة أيام رالتي كانت قد فازت حركة حماس بالانتخابات التشريعية والرئاسية في فلسطين حينها في 2006 ما ادى هذا الى فرض الاغلاق التام على فلسطين وغياب اية أفق لتسهيل عودتي الى القطاع والذي بدأ محاصرته رسمياً من قبل الاحتلال، او حتى إلى رام الله.
وها أنا أجد نفسي من جديد في معركة أخرى في الحياة!
المتحف
أول مرة:
كانت زياتي لمتحف بيكاسو في باريس هي اول مرة أزور فيها متحفاً للفنون، وأول مشهد رأيته هناك فتاة بعمر الأربع سنوات تستلقي على بطنها وتقوم برسم نسخة عن لوحة أصلية لبيكاسو، وتذكرت حينها طفولتي التي افتقدت لكل هذه الامكانيات حتى انني لم اكن اعرف ان هناك فنانا اسمه بيكاسو.
بالرغم من ذلك فإن تجربتي الفنية اوصلتني إلى قناعة مفادها بان الظروف المحيطة والامكانيات المتوفرة لا تشكل اهمية كبيرة ذات معنى في حياة الفنان، وإنما وعيك لحاجتك الداخلية للتعبير هي التي ستضعك على الطريق الصحيح، وباقي المعادلة هي مسألة وقت فقط.
هل تساءلت عند إقامتك بباريس عن تحدي الظهور كفنان بصري في هذا العالم المليء بالمنافسة والفنانين؟
طبعا كان هذا التساؤل مقلقاً جداً بالنسبة لي، ولكن كان الجزء الذي احبه في هذا الوضع هو حبي للاكتشاف والتحدي وعادة انا أفضل اختيار الطرق الوعرة والغير معروفة، فهي الطريق التي تقودنا الى ما هو مميز.
في عام 2006 عندما افتتحت معرضي الفني “حصار” كانت ردود الفعل والاضواء قد بدأت تتسلط علي، ووجدت في حينها بأن سفري الى باريس كان بمثابة انقاذ لي ولمشروعي الفني من الانسياق والتعايش مع الحالة الفنية المحدودة والمحلية التي كانت طاغية آنذاك، لذلك كان احساسي في باريس كالسمكة التي غادرت حوض السباحة لتعيش في المحيط، وفرصة لتغيير حدودي الفيزيائية والجغرافية وحتى المتخيلة.
وفعلاً السنوات الأولى من إقامتي في باريس لم تكن أبداً سهلة، بالرغم من مشاركتي بالعديد من المعارض الفنية، وتحديداً معرضي الاول هناك الذي حمل عنوان “مخرج”.
وبعد ذلك عملت على مشروع “السد”، وهو مشروعاً تجريدياً بحتاً، وحتى الالوان فيه تأثرت بالحالة الرمادية الناتجة عن حالة الطقس والتي بدأت أتعايشها في باريس، أما الفكرة التي كنت أناقشها في مشروع ”السد“ هو ذلك الحد الفاصل الذي بني بين ماضيي وحياتي وعائلتي وما بين الحياة التي اعيشها اليوم.
بعد ذلك تزامن مشروعي الفني التالي مع حالة التغيير التي حصلت في فلسطين بين قطاع غزة والضفة ولأكون ذقيق أكثر هو بين حركتي حماس وفتح، وحالة القتل المتبادل بين ابناء الفصيلين حتى بين الأصدقاء، واسميته “حرب البنانير”، وفيه خلطت بين التجريد والتشخيص، والهدف الاساسي كان بمثابة نقد ذاتي.
في عام 2007 انتقلت للعمل على مشروعي “ستاند باي”، وهو بداية اكتشافي لمادة الزفت، حيث قررت ان أرسم حينها 60 لوحة بمناسبة مرور 60 عام على النكبة، وبدأت المشروع بشخص يجلس على كرسيه وتتغير وضعيته بين لوحة وأخرى، حيث جاء الاسم ”ستاند باي“ من استخدام ذلك المصطلح والفكرة في المطارات ومحطات السفر بمحاولة مني لقلبه إلى مصطلح إنساني وسياسي ينطبق على الشعب الفلسطيني الذي ينتظر منذ سنوات أن يأخذ مكانه وكرسيه ليكون له مكانه في هذا العالم، ومن ناحية أخرى التعبير عن وجع وبشاعة هذه الحالة من الانتظار.
بعد سبع لوحات من رسمي لشخصي وانا أجلس على الكرسي وجدت نفسي اذهب باتجاه الوجه فقط .. فأكملت المشروع بالوجه فقط، وفيه أيضاً خلطت بين التجريد والتشخيص، ومن الجدير ذكره بأن هذا المشروع عرض في عدة دول من العالم.
ما هو المشروع الفني من بين هذه المشاريع الذي تعتقد انه وضعك على خارطة الفن البصري العالمي؟
بعد انتهائي من تجربة مشروع “ستاند باي” واكتشافي لمادة الزفت، هذه المادة الجديدة التي يمكن ان أتحداها وأخوض معها معركة جديدة، كما أن مشروع “ستاند باي” ساعدني بالحصول على جائزة ومنحة رينوار 2009، وهي عبارة عن إقامة فنية في قرية (إيسوا Essoyes) وهي القرية التي عاش بها الفنان الفرنسي الكبير أوغسطين رينوار ثلاثين عاماً من حياته، وكانت الشقة والمرسم الذي كنت مقيم به بجانب مرسم رينوار الدي أنجر فيه أهك أعماله في تلك الفترة، والذي كنت أستخدمه فقط لعمل الدراسات السريعة ومن بعدها أنفذ أعمالي في مرسمي الذي أعيش فيه، وهذا كان شعور رائع لا أستطيع وصفه.
سؤال الجدوى إلى أي حد ترى نفسك من الفنانين المهتمين بجدوى أعمالهم الفنية التي يقدمونها؟
هذا الشعور يأتي باستمرار لأي انسان يعمل، ولكن هذا السؤال ألح علي بشكل قوي جدا في تلك المرحلة من حياتي عندما انتهيت من العمل على مشروع ستاند باي 2009، والذي بعده بثمانية شهور لم أقم بإنتاج أي عمل فني بصري، لأتفاجأ حينها بحصولي على جائزة واقامة فنية “رينوار” في ذلك العام، وكانت هذه الجائزة بمثابة قارب نجاة لي، حيث وفرت المنحة لي مرسماً وبيتاً ودخلاً شهرياً ومكانة مهمة كون هذه المنحة والاقامة مهمة على المستوى الدولي، بالإضافة الى جملة الظروف الشخصية التي ساعدتني تماما لاتخاذ هذا القرار بمغادرة باريس والذهاب الى تلك القرية.
وكانت فعلاً من أفضل تجارب الاقامة والسكن بالنسبة لي، على العكس لزوجتي صابرين وقدسي والتي كانت صعبة جداً عليهم لمكان هذه القرية المعزول والبعيد عن أنشطة الحياة كما باريس. أما بالنسبة لي فأنا عدت لمرحلة من حياتي اقوم فيها فقط بالقراءة والرسم وسماع الموسيقى واللعب مع ابني ”قدسي“.
في تلك المرحلة أيضا وعلى المستوى الشخصي ولان زوجتي “صابرين” من حملة هوية القدس، وكان يفرض عليها حسب قانون الاحتلال أن تسافر كل ستة شهور للقدس لإثبات وجودها حتى لا يتهددها سحب الهوية .. والخ حيص جاء موعذ السفر بعد فترة قصيرة من وصولنا إلى القرية، وفي اللحظة التي ذهبت فيها مع وزوجتي وابني إلى باريس لإيصالهما الى المطار؛ سألني ابني قدسي “بابا انت ليش كل مرة ما بتيجي معنا؟” وكانت هذا السؤال هو مدخلي لمشروعي الفني “درس في الطيران“ و ”إنتظار“، ودرس باتجاه ذاتي واعادة تذكيري بانني فنان يعيش بالغربة، وأنا محاط بعالم هش.
Hani Zurob working at the Internationak Art Colony, summer of 2018. Photography by Amir A. Abdi
وفعلاً عدت محطماً وبدأت بالرسم دون أن أعرف إلى أين ذاهب، وقمت بانتاج أعمال فنية مفصلية وخارجة عن المجموعات وهذه طريقتي عند الضياع في المسافة بين مشروع وأخر، ورسمت في هذه المسافة خمسة أعمال كانت معظمها تصورني أنا شخصياً وأقصد هنا أن وجهي وجسدي واضحين بما يكفي للتعرف على ملامحي، حيث كان العمل الأول (بدون عنوان 2009)، و(إنتظارI)، (إنتظارII)، (بورتيه شخصي) وتخللهما لوحة (إرث) وهي التي ظهر فيها قدسي لأول مرة.
وهنا أود أن أضع الاقتباس كما هو لفقرة كان قد كتبها كمال بُلاّطة عن هذه المرحلة، والذي كان يخص فيها الحديث فقط عن لوحة (بدون عنوان 2009)، وهي فقرة بسيطة من فصل كامل بعنوان ”عين الآخر وصورة الذات، حول لوحة من أعمال هاني زعرب“ والذي كان قد نشر باللغة العربية في عدد من مجلة الآخر في صيف 2011 وذلك قبل عام من نشر الكتاب:
”ما فاقَم عزلة هاني في هذه القرية النائية، التي تركت أثرًا ممّيزًا في اللوحات التي أنتجها أثناء إقامته هناك، كان الغياب القصري لصابرين وولدهما. فمنذ وصولها إلى فرنسا، اضطرت صابرين إلى أن تعود كل ستة أشهر إلى الوطن، وذلك لكونها من مواليد مدينة القدس. فهي ككل عرب المدينة الذين انحدروا من عائلات مقدسية، إذ لم ُيعترف بهم كمواطنين في المدينة التي ُولدوا فيها منذ أن استولت إسرائيل على المدينة القديمة وضواحيها سنة 1967.وهكذا عَّدت السلطات الإسرائيلية أهل البلدالأصليين من العرب مجَّرد ‘مقيمين دائمين’. وبالتالي، مُنحوا بطاقات هوية تُحدد وضعهم كمقيمين ليس إلا. وبما أن السياسات الديمغرافية الإسرائيلية لم تتوقف أبدًا عن مناصرة أغلبية يهودية في القدس، على مرِّ السِّنين، فقداستخدمت السلطات الإسرائيلية كافة أنواع الحجج والذرائع لكي تتمكن من سحب بطاقات الهوية هذه، بينما قامت، في الوقت نفسه، بمصادرة المزيد من الأراضي في الحدود البلدية التي توسّعت يومًا بعد يوم على امتداد ما سُمّيت بـ ‘القدس الكبرى’. وهكذا وجد أكثر من أربعة آلاف عربي من القدس أنفسهم، بين عشّيةٍ وُضحاها، غرباء في مسقط رأسهم. فاضطَّرت صابرين، لكي تتجنب سحب بطاقة هويتها وفقدان حقها في المواطنة في مدينتها الأم بحجة إقامتها في الخارج، اإلى أن تقوم بتلك الرحلة إالى الوطن مرتين في العام حيث تقضي في كل مّرة، شهرين مع أسرتها. ومنذ ولادة قدسي أخذت تصطحب الطفل معها.
أما هاني، الباقي وحيدًا في إيسوا أثناء أشهر الشتاء الأكثر اكفهرارًا، حيث كانت تمر الأيام القصيرة بأكملها من دون أن ينطق بكلمة إلى أحد، فقد اكتسب الوقت الوافر للتأمل في تجربة كيانه كغريب دخيل في محيطه الفرنسي. وفي الحال بدأت تأملاته تتحسس طريقها نحو التجُّسد التعبيري في لوحاته.
على مدى عدد من الأسابيع، بعد مغادرة صابرين وقدسي، عمل هاني ُزعرب على لوحة كبيرة لا تنتمُي إلى متوالية ‘ستاندباي’ السابقة ولا إلى متوالية ‘درس في الطيران ’ التي تلتها، والتي اأنتج معظُمها أثناء إقامته في قرية رينوار. ولق دكشفت هذه اللوحة عن ممّيزات فريدة خاصة بها، خاض بواسطتها الفنان عراكه مع وضعه الحياتي. على حين أنَّ موضوعها الفني طرَح اأسئلةَ وجودية طالما عذّبتهُ منذ أن بدأ يشعر بوجوده كدخيلاً في المجتمع المحيط به حيث انقطع عمّا ألِف، وعمَّن أحب.
ونتيجة هذا المناخ العام الذي وجد نفسه فيه، فإن جلّ الأسئلة التي أرَّقته في تلك الفتة كانت تدور، دون وعي منه، حول موضوع الذات والآخر. لم ترتبط الأسئلة هذه المرة بالسيولة التبادلية بين ذاته والآخـر الجمعي، كما يتجلى ذلك في اللوحات السابقة، ولكنها ركزت، بدل من ذلك، على الكيفية التي يمكن أن يتحَّقق بها الوعي بالذات عبر أعيُن الآخرين، كما بيّن بول ريكور.“
بالنسبة للخامات والوسائط المستخدمة في “درس في الطيران” كانت ذاتها الاتربة والزفت، اما تكوين اللوحة فقط اختلف عما سبقه من أعمال كانت تعج بالازدحام والفوضى والعراك ما بين العناصر، اما في درس في الطيران فقد اصبحت المساحة ارحب واوسع في تكوين اللوحة.
لم يلتفت أحد في البلد إلى المشروع عند بداية عرضي له في 2009، ووضع بعض الصور على مواقع التواصل الاجتماعي وقد وصلني العديد من الانتقادات على المشروع ومنها أنه يشبه تقنيات الكمبيوتر والفوتوشوب وبعيداً عن أسلوبي، الا انني كنت مؤمناً بأن هناك ما هو جديد في هذا المشروع . ” فالوعي اذا ما كان يقظاً لدى الفنان حينها سيكون كل شيء متاح.“
كان أول عرض لأولى لوحاته عام 2009 بمعرض شخصي في باريس في جاليري أوروبيا، وتلاه معرض شخصي أخر عام 2011 والذي كان بمثابة كجزء من الجائزة في جاليري Eric Dumont بالتعاون مع مؤسسة رينوار المانحة للجائزة، وبعدها شاركت بأكبر عدد من هذا المشروع في معرض شخصي اخر مع جاليري أرت سبيس في دبي، ومن ثم كان الجزء الأحير قد عُرض في معرض شخصي حمل إسم المشروع في جاليري المرخية في قطر عام 2013.
ما الذي تشعر به عندما تقف امام اللوحة والمساحة البيضاء للبدء بأي عمل؟
أنا من الفنانين الذين لا يحبون الخلطات الجاهزة، أو بالأصح لا أقف عند التقنية أو الخلطة التي اتبعتها سابقاً، فالتجربة البصرية والشغف يدفعني دائما للبحث عن الجديد وما يحمله هذا الجديد من متعة، لا اتخيل نفسي أبقى رهيناً للشكل فني واحد طوال مسيرتي الفنية. فلكل فكرة ومشروع برأيي هناك الشكل والتقنية والوسيط الذي تحتاجه لتقدم بشكل أفضل.
في حياة الفنان ما هو الفرق بين الاسلوب والتكرار وكيف نجد فنانين متجددين ولكن ضمن اسلوبهم الخاص؟
هذا السؤال صعب، ولا استطيع الجزم بامتلاكي الجواب عليه، ولكن الاسلوب يشبه حالة بين اليقظة والنوم، واحساسي بأسلوبي يشبه هذا الاحساس، أما التجديد فيأتي من بحثي الدائم عن ما هو متفرد، ببساطة عملي في 2004 لابد وأن يختلف عن لوحتي في 2016 والموضوع ليس له علاقة بالتقنيات والخبرات فقط وانما بما استجد وتغير فكرك اتجاه الفن والحياة.
في المشاريع الفنية السابقة مثلاً والتي كنت اعقدها على شكل مقارنات، كنت انتقد نفسي إذا ما قدمت عملاً هناك من سبقني الى تقديمه، إلا أن نظرتي اتجاه هذا الموضوع تغيرت لاحقاً فالإضافة البصرية لا تتم فقط بالشكل البصري فالسياق والتجربة الذاتية للفنان تعطي معنى آخر للمنتج البصري.
في مشاريعي الفنية مثلاً أعدت استخدام خامة الزفت وانجزت مشروع زفت 2017، وبالرغم من ثقل وغلاظة هذه المادة وعدم حبي لها، وبالرغم من سؤالي دائما بين نفسي ونفسي عن سبب تورطي فيها؛ الا انني تستحوذ على تفكيري وتثير اهتمامي للبحص المستمر معها.
الان مشروعي الحالي كيف يمكن أن اخلق من مادة الزفت جمال .. بالمفهوم البصري والجمالي .. اسعى لان يرى احدهم لوحتي الممتلئة بالزفت ويندهش من مقدار جمالها
.
هل يوجد لديك اعمال فنية معينة ترفض بيعها؟
هناك الأعمال القليلة جداً والتي تعد على أصابع اليد، ولكن للأسف فالزمن لم يعطنِ الفرصة بامكانية الاحتفاظ بأعمال لي، فهناك الكثير من الأعمال التي كنت اتمنى لو استطعت أن أبقيها في مرسمي أو في بيتي ولكن من جهة فأنا لدي القناعة أنه لابد لأعمال الفنان أن تحيا حياة أخرى بعيداً عنه، اضافة لعدم امتلاكي لمستودع لحفظ هذه اللوحات .. وارتفاع التكاليف التي يحتاجها العمل والحياة على حد سواء، كنت استسلم لطلبات المقتنين.
طوال مسيرتك الفنية هل شعرت يوماً بالغيرة من احد الفنانين؟
عموماً اي عمل فني جميل اراه ويستفزني بغض النظر عن الفنان اتمنى لو أنني صاحبه .
الى اي حد يكون المشاهد والمتلقي حاضراً في ذهن هاني اثناء عمله على اللوحة؟
فعليا انا ضد أن يكون بذهني أي طرف عند دخولي الى مرسمي والعمل على لوحتي، لا احتمل ان اكون في استديو مكتظ بالمشاهد والمحيط والنقاد والمقتنين وأصحاب صالات العرض، لأن هذا سيفسد الحميمية التي من المفترض ان تكون بيني وبين اللوحة.
ما هو السؤال الأكثر استفزازاً لك حول أعمالك أو لوحتك الفنية؟
سؤال تافه مثل كم الوقت الذي استغرقته للعمل على هذه اللوحة؟ وهذا سؤال مستفز فعلاً، وعندما وجه لي آخر مرة كانت اجابتي بأنني اعمل على اللوحة منذ اربعين سنة، فالعمل على اللوحة لا يقاس على السنوات وانما على التجربة والوعي.
أيضا من اكثر الاسئلة التي اكرهها وأمقتها “كم سعر هذه اللوحة؟” فأنا بالنسبة لي اللوحة لها قيمة وليس سعر!
ما هو سبب حرص هاني زعرب على أرشفة وتوثيق اعماله الفنية المباعة وغير المباعة اضافة الى اشتراطك على كل مقتنيي أعمالك في حال ارادوا بيعها أن يعرضوها عليك أولاً؟
هذا قادم من شخصيتي فأنا لدي سمة التنظيم الشديد الذي امتاز به، كما أنني تعلمت بأن التنظيم والترتيب سر من اسرار نجاح الانسان.
ما الذي يدور في ذهنك الآن؟
حرائق القلب .. جملة يرددها ذهني منذ اسابيع .. ربما آتية من الظروف أو من سؤال عمر الاربعين ..
وهناك أمور كثيرة أخرى تتعلق بصديقي الزفت… والتي تطغى كثيرا على ذهني كثيراً في الآونة الاخيرة!
انتهى