هل هجرتم من عمواس الى الخليل؟
ابي عمل شرطياً مع الانجليز، قبل النكبة طبعاً، وكنا نسكن فوق مركز شرطة القائم باللطرون حتى الآن. لا أذكر أين يقع بالتحديد ولكن كان بإمكاني عن أتعرف الى المبنى لو انني استطعت الاقتراب ولكن كان هناك جنود منعوني من ذلك عندما زرت المكان. اليوم يضعون هناك دبابة يقولون بأنها أول دبابة دخلت الضفة. بحرب ال-48 الناس خافت، سمعت الأخبار عن المذابح التي يقترفها اليهود، فهربنا الى حلحول بلد ابي وامي لا سيما وأننا كنا نملك بيتاً هناك. والدي ترك عمله واصبح بلا راتب وصارت لدينا مشاكل كثيرة، كانت فوضى كبيرة. عندما جاء الاردنيون التحق والدي بالشرطة وداوم في مقاطعة الخليل. عشت طفولتي كلها في حلحول حتى المرحلة الثانوية. بعد ذلك سافرت الى الاسكندرية لأدرس الفن وبقيت هناك لمدة خمس سنوات. خلال الفترة الاعدادية عندما درسنا كل شيء من زخرفة الى رسم الى غيرها قالوا لي اذهب الى التصوير فتخصصت بالرسم. عندما تخرجت بال-69 كانت الحرب ما زالت قائمة ومؤثرة. لم استطع العودة الى البلاد وانقطعت عن عائلتي. كان علي ان ابقى في عمان حيث اضطررت للعمل هناك لمدة سنة براتب ضئيل وبمدرسة تعيسة حتى تقدم والدي بطلب لم شمل واثبت لهم بأنني كنت أدرس خارج البلاد فدخلت بآخر سنة 1971.
ماذا فعلت بعد عودتك للبلاد؟
عدت الى حلحول وبدأت اقدم طلبات عمل فقبلوني مدرساً بدار المعلمين. كامل المغني كان يدرس هناك لكن اليهود اعتقلوه لنشاطه بالجبهة الشعبية فدخلت مكانه بعد ان حكم لثلاث سنوات. عندما عدت الى البلد لم استطع ان أحضر سوا اللوحات الصغيرة، 15 لوحة ربما. بوقت المواجهات بين الاردنيين والفلسطينيين بأحداث ايلول تدمرت المنطقة التي سكنت بها كلياً وذهبت اللوحات. لم أعرف ماذا حل بملابسي حتى. أطرت اللوحات التي أحضرتها وأقمت بها معرضاً عام 1972. كان من اول المعارض بعد معرض اسماعيل شموط عرضت خلاله لوحات لي وأنا طالب وأعمال أخرى رسمتها وأنا أسكن في الكلية. في نفس السنة بدأت اتعرف الى سليمان وفنانين آخرين ككريم ذباح ورحاب النمري- فيرا كنت أعرفها من قبل فقد كانت تدرس معي- والذين جاؤوا جميعهم الى المعرض. منذها بدأنا نفكر في اقامة جسم للحركة التشكيلية الفلسطينية وتداولنا فكرة الاتحاد. في نهاية المطاف قررنا اقامة رابطة لان الاتحاد بحاجة الى دولة وما الى ذلك، وهكذا انطلقت الرابطة بعام 1975.
اين اقيم المعرض؟
المعرض أقيم في جمعية الشابات المسيحيات بالقدس. “كنا نروح ونيجي على القدس وقتها”. كان هناك تعطش فآخر معرض رأته الناس كان لاسماعيل. الجرائد كتبت عن المعرض والناس اتت وبعت العديد من اللوحات خاصة وأنها كانت رخيصة- 30 او 40 دينار. فرحت جداُ بتفاعل الناس التي أعطتني دفعة. في ال-74 أقمت معرضاً مشتركاً مع عصام بدر بقاعة النادي الارثوذوكسي- لم تكن هناك قاعات مخصصة للعرض لهذا فلقد عرضنا بمعظم الأحيان ببلديات، جامعات ومؤسسات أخرى كالنوادي. عصام كان قد أنهى تعليمه حديثاً فأحضر لوحات من فترة دراسته. أيضاً على هذا المعرض كان هناك اقبال كبير ولو ان الاقبال بالقدس كان أكبر. بشكل عام الاقبال على المعارض كان كبيراً. حتى هذه المرحلة لم تكن هناك مضايقات، وصرنا نعرف بعضنا البعض وصار عددنا حوالي ال-17 فنان في الضفة وغزة. بدأنا نجتمع ونناقش النظام الداخلي وكل هذه الأمور. في ال-79 استضافونا في غزة حيث أقمنا الانتخابات. في البداية كان عصام الرئيس، فقد كان “الفهلوي” فينا، بعده سليمان ومن ثم أنا. أصبحنا 20-25 شخص.
هل دفعكم الى ذلك شعوركم بالمسؤولية؟
كنا نريد تنشيط الحركة التشكيلية وكان لا بد أن يكون هناك دور للفن بالمعركة السياسية في تلك الأيام. الثقافة بشكل عام كان عليها أن تلعب دور. نحن كنا سباقين على فكرة من حيث اننا قمنا بضم أناس من الضفة ومن غزة. حتى ذلك الوقت معظم المؤسسات كانت ضفة فقط. بدأنا نفكر أية نشاطات نقيم حتى صرنا نقيم معرض مشترك متجول كل عام يبدأ من رام الله منها ال جنين الى ام الفحم الى الناصرة الى غزة الى الخليل، يتجول ويرجع الى القدس. أقمنا 12 معرضاً سنوياً من هذا النوع. عبد عابدي تعرف الينا بهذه الفترة وجهينة قندلفت وداهود الحايك وخليل ريان وابراهيم حجازي. كانت لدينا جرأة وكنا شباب “مستعدين نحمل بتراكات ونروح على الناصرة ووين ما لازم”. الفضل الكبير كان طبعاً للمؤسسات الوطنية كالبلديات والجامعات والنوادي فلم نكن نملك النقود وهم كانوا يقومون ببعض الطباعة او بتحمل تكاليف الشحن.
وكل هذه المعارض كانت بالبلاد؟
بعام 1976 كان اول معرض يأخذ الرابطة الى خارج البلاد، وكان ذلك في عمان عندما سافرنا انا وسليمان وفيرا وعصام. المعرض اقيم بالمركز الثقافي السوفييتي وأيضاً هناك كان الحضور جيداً. لم تكن لديهم نشاطات للحركة التشكيلية فاهتموا بالمعرض كثيراً. اللوحات فقدت على فكرة. لم يكن هناك من يتابع والتواصل كان صعباً. معرض آخر أحرق كله في غزة بعام 79 أعتقد كان فيه 44 عمل لكل الأعضاء وكان لي من بينها 4 اعمال مهمة. الخطيب كان يخطب بالناس بأحد أيام الجمعة وقال بأن غزة تتعرض لتوجه يساري شيوعي فهاجت الناس وخرجت بمظاهرة. وبعد ان استهدفوا الهلال الأحمر، أحرقوا المكتبة واللوحات التي تواجدت فيها. في نفس اليوم أحرقوا أيضاً مكان على الشاطئ كنا نشرب فيه العرق، ومكان آخر ادعوا ان فيه رقص. حيدر عبد الشافي اتضح كانسان فهمان فعوضنا ب-11 ديناراً على كل عمل.
بعد ذلك تتالت المعارض الجماعية وصاروا يطلبوننا خارج البلاد لنقيم المعارض في المانيا وبروكسيل. أصبحت للرابطة شعبية وعلاقة طيبة مع الجمهور. أذكر كيف طلبت البلدية في نابلس من الشرطة ان تنظم الناس من كمية الناس التي حضرت. بسام الشقعة رئيس البلدية تحمس لنا كثيراً، وكريم خلف في رام الله، وشخص اسمه حنون في طولكرم، وجمعية نسوية في جنين، وتوفيق زياد في الناصرة، وحيدر عبد الشافي في غزة، ومؤسسات عديدة في القدس كجمعية الشابات المسيحيات والحكواتي. بشكل عام اليساريين هم من قاموا باحتوائنا.
ومع ماذا تعاطيتم في أعمالكم بتلك الفترة؟
هذه الفترة اتسمت بالرمز السياسي، قبضات كالتي رسمها كامل، أسلاك شائكة وحمام ميت. لم يكن هناك استيطان بعد، هذا قمت برسمه فيما بعد. تعاملنا مع مواضيع الأسرى والأرض وكانوا يطلبون منا اقامة معرض في يوم الأرض، يوم المرأة او يوم الطفل العالمي. هنا بدأت سلطات الاحتلال تتنبه لنا وتعتبر بأننا نحرض على الدولة. في ال-79 أقمنا اول جاليري- جاليري “79” الذي اعطاه عصام اسمه، وبدأت المنظمة تدعمنا واناس كأبو جهاد يشجعونا أما اليهود فبدؤوا بإغلاق المعارض. كان هناك معرض لمحمد حموده الذي كان مباشراً جداً- كان يرسم بيت مهدوم او شخص يطلق النار- فاغلقوا المعرض وصادروا أربع لوحات ووضعوا شمعاً أحمراً لمدة شهر وطلبوا بأن تمر اللوحات عن طريقهم قبل أن تعرض. المعرض الذي تلاه كان لسليمان فأتوا وأغلقوا المعرض لأننا لم نطلب اذناً، رفضنا مبدئياً. عندها طلبتنا المخابرات كما حدثك سليمان. سجنوا عصام لبضعة ايام واعتقلوا سليمان اما انا فتركوني- كنت مسالماً. بكل الاحوال نحن واصلنا طريقنا حتى بعد ذلك.
في بداية الثمانينات وخاصة بعد معرض أمريكا شعرنا بأننا مباشرين جداً وبأننا دخلنا في دائرة السياسة والرمز السياسي التي تجعل الفنان مقيداً. تناقشنا وقررنا بأن نخرج من هذه المرحلة. انا وسليمان نشطنا مع جمعية انعاش الاسرة وقمنا بتأليف كتابين عن الأزياء الشعبية. في حينه بدأنا نتجول بين القرى وننظر الى البيوت القديمة والحياة الشعبية والزراعة وأدوات الزراعة وكل هذا أثر بنا خاصة التطريز والقش. حتى فترة تخرجي لم أكن أعرف من فلسطين الا حلحول وبعض المدن ولم أتعمق بالقرى وهذه كانت فرصة بالنسبة لي. من جهة أخرى، أردنا ان نغير النهج السياسي خاصة وانه صار هناك نقد على عملنا فكمال بلاطة مثلاً كتب مقال “بهدلنا فيه” وقال بأن هذا لا يعتبر فناً. ونحن بالسليقة توجهنا نحو التراث، ولحق بنا الكثيرون كذباح وفيرا وجرار وحتى كمال بدأ يدخل عناصر من هذا النوع. اعتبرنا هذا حفاظاً على الهوية الفلسطينية المهددة وبالطبع بأنه فعل سياسي أيضاً وله هدف وطني.
في هذه الفترة دخل الاسرائيليون علينا وأرادوا بأن نقيم معارض مشتركة. كريم كان ينسق معهم. المعرض الاول كان في حيفا واخترنا سليمان ليتحدث لأنه تعلم في “بتسلئيل”. عندما قال فن “فلسطيني” بدأت الناس تقاطعه وتضايقه. كان هناك اشخاص يمينيين هاجوا عندما سمعوا اسم فلسطين فأرادوا تحطيم اللوحات حتى انه كانت هناك حاجة لاستدعاء الشرطة. مع ذلك واصلنا الاجتماع بهم واذكر بأننا اجتمعنا في “بتسلئيل” عندما طلبوا منا معرضاً ثانياً، وصار هناك نقاش حول استخدام الاسم فبعض الاسرائيليين تشنجوا من فكرة كتابة فنانين فلسطينيين بحجة ان الجمهور لن يأتي. عبد وكريم ايدوهم وقالوا من الافضل بألا نكتب فلسطينيين لكننا صممنا وبالنهاية ظلت فلسطينيين.
لماذا تواصلتم معهم منذ البداية؟
هم توجهوا لنا فقمنا باستشارة الكثير من الناس حتى اننا سافرنا الى بيروت خصيصاً لنلتقي بأبو جهاد فقال لنا قوموا بذلك. كريم خلف كان متحمساً أيضاً. قالوا لنا اعرضوا لكي يروا بأن لدينا فن وحضارة أيضاً وليس فقط القاء حجارة، “خليهم يشوفوا بلكي بصير في تغيير”. أقمنا معهم عدة معارض بالداخل والخارج، في امريكا شارك حتى السفير الإسرائيلي. بعد فترة شعرنا بأننا نقوم بشيء خاطئ، والبعض صاروا يقولون بأنهم غير مستعدين للمشاركة بمعرض اسرائيلي-فلسطيني. أيضاً بدأنا نرى نفس الوجوه فقد كان المشاركين بالأساس من جماعة الحزب الشيوعي. لكي نؤثر بالجمهور الإسرائيلي بحق كنا بحاجة لجمهور أكبر ومتنوع أكثر لهذا فد توقفنا عن اقامة المعارض معهم بآخر الثمانينات لكنا حافظنا على بعض العلاقات مع جرشون وحدفا شيمش مثلاً. عندما اعتقلوا فتحي الغبن جاء بعضهم وتضامنوا معنا.
كيف تأثرت أعمالك وعلاقتك بالمواد، وخاصة بالجلود، بفترة الانتفاضة وما بعدها؟
قبل الانتفاضة حتى، في ايام الرمز السياسي، لم أكن ممن تبعوا هذا التيار كثيراً- ربما كانت لي لوحة لام الشهيد وهي تلبس ثوب تقليدي مع بعض الكتابات المنقولة عن محمود درويش. هذه اللوحة بيعت رغماُ عني. بالتسعينات اقمنا معرض للوحات التي لا ينوي الفنانين بيعها فباعوها عندما لم أكن هناك لطارق العقاد الذي رفض ارجاعها. القضية وصلت للمحكمة وتدخل مازن قبطي بعد ان طلبت منه ولكن العقاد كان مصراً. في تلك الفترة كنت قد بعت اغلى لوحة لدي ب- 5000 دولار فدفع لي نفس المبلغ مقابلها. باختصار، انا لم أعتمد الرمز السياسي المباشر وكذلك سليمان على الاختلاف من فناني غزة مثلاُ وفنانين آخرين كثر من الضفة.
كنت أرسم بالزيت بالأساس أما بعد الانتفاضة فعملت بالجلد أيضاً من ثم عدت للاكريليك وكرهت الزيت. الانتفاضة جعلت الفنان رمادياً، لا دور له، فمن يضرب الحجارة بالشارع أصبح أهم ممن يكتب او يرسم. كنوع من التغيير والتجديد فكرنا نحن أيضاً بأن نضع شروط تتوافق مع نداء الانتفاضة كأن تكون المواضيع فلسطينية وتتعاطى مع الوضع الراهن ايام الانتفاضة وان تكون المواد محلية وليست اسرائيلية او امريكية او اوروبية. هكذا بدأنا التركيز على الخامات المحلية ولم نمشي بالضرورة وفق قوانين اللوحة، كأن تكون اللوحة على شكل مربع، وأصبح من الممكن بأن يكون الخط الخارجي حراً. كل اسبوع كان يصدر بيان يشجع الناس على الاكتفاء الذاتي والزراعة واستغلال الارض وعدم الاعتماد على المنتجات الإسرائيلية. أذكر حتى بأنه كانت هناك قطعة أرض متروكة بجانب بيتنا فقمنا بزراعتها نحن وجيراننا كما أقمنا مدرسة وكنت انا اقدم دروس الفن تحت الشجر.
عندما بدأنا البحث بالمواد المحلية تذكرت كيف كنت اذهب مع والدي الى الخليل حيث كان مصنع الجلد. كنت اسأل والدي ما هذه الرائحة فقد كانت كريهة بدرجة كبيرة. ظل الموضوع عالقاً بذهني فقلت اريد ان اعمل بالجلد ان امكن. ذهبت الى مصنع الجلد بالخليل ووجدت بأن الرائحة بقيت على حالها! تعرفت على الجلد وطريقة العمل معه، كيف يقومون بتنظيفه وتحضيره وكل الخطوات التي يمر بها على خط الانتاج حتى يخرج مصبوغاً وجاهزاً على شكل شرائح. انا اخذته أبيضاً ونظيفاً قبل الدباغة. جلد الماعز كان سيئاً لأنه يجف اما جلد الخروف فيبقى طري والصبغات والحناء عليه تبدو جميلة. كان علي ان اجرب حتى اصل للطريقة التي استخدمها. استخدمت معه الحناء والنيلي وبعض المواد من المطبخ كالسماق والشاي واقهوة- اذا وضعتي أي شيء على الجلد على فكرة يبقى كبقعة القهوة او اليود. كلها تبقى بلون بني. عندما اردت الخروج عن البني والبيج استخدمت الاصباغ وفيها كل الالوان. استخدمت ايضا الجنزارة التي تشبه السكر ولونها أزرق فاتح. كان المكان اشبه بالمختبر في حينه. سليمان ايضاً جرب القش والطين وتيسير جرب الحرق على الخشب وغيره. عملت بالجلد قرابة العشر سنوات من بعدها، خرجت احيانا للاكريليك لأعود للجلد مع العلم بأن الجلد عامة متعب ويحتاج للكثير من العمل. هذه الفترة برأيي اثرت على الجيل الجديد من الفنانين. الجرأة التي كانت لدينا جعلتهم يخرجون عن التقليدي ويخوضون التجريب أكثر.
وهناك بدأت قصتك مع شجرة الزيتون أيضا؟ً
اهتمامي بشجرة الزيتون جاء بوقت متأخر أكثر بعد ان بدأ الاستيطان يتوسع وصار اليهود يحرقونها ويصادروها ويهاجمونها كرمز وطني وسياسي واقتصادي في آن واحد لا سيما وان الزيتون كان أكبر منتوج مجلي فلسطيني ذلك بالإضافة الى ان ما يميز فلسطين كطبيعة هو شجرة الزيتون. عندما بدأت أخرج للطبيعة وارى المناظر المليئة بالزيتون خاصة بمنطقة غرب رام الله انبهرت عندما ركزت بالموضوع بصرياً وفكرياً. وجدت بأن فلسطين تمتاز بهذه المناظر الخلابة على مد البصر- شجر يكسو الجبال والدوديان. احببتها كثيراً واحببت ان اعبر عنها بالمنظر الطبيعي. عملت لمدة 4 او 5 سنوات على المناظر- كنت اشبعها دراسة ولا اترك أي جانب لا اتطرق اليه ولم اكتفي برام الله انما تجولت بشمال نابلس وبيت جالا وبيت لحم والتقطت الصور التي ساعدتني على تكوين فكرة كاملة عن طبيعة فلسطين او عن “اللاندسكيب” الفلسطيني، وأول ما يخطر على البال بهذا السياق هو شجرة الزيتون والقرى.
من هذا الحب اكتسبت حساسيتك للبيئة المحلية وتفاصيلها؟
عامة انا احب الخامات حتى عندما أرسم بالألوان. استخدمت الخامات المتواجدة بالمنزل فكنت انثرها على اللوحات الكبيرة. البهارات مثلاً استخدمتها مع الجلد كما ذكرت لان الجلد بحاجة لمواد طبيعية. بالطبع احياناً استغل العفوية التي تخرج عن الالوان، كأشكال الحيوانات او الناس التي تظهر فجأة، واضيف من عندي. عادة لا احب ان اعمل بخامة واحدة انما بعدد من الخامات فقد أدخلت للجلد مثلاً الخشب والنحاس والسيراميك والتطريز وأمور أخرى. عملت بالخزف ايضاً فلدي فرن وعندما امل من الرسم والتلوين اعمل بالخزف او بالطين. كما كانت لدي اعمال ثلاثية الابعاد (3D) من مواد مختلفة كالزجاج او الخشب او النحاس. اينما اجد شيئاً ان كان في الخليل او جنين آخذه معي ولدي مجموعة كبيرة جادً بالبيت.
أقمت معرض بالسكاكيني كان اسمه “ناس وكراسي” تعاطيت من خلاله مع علاقة الانسان بالكرسي من الحاكم الذي يتمسك بالكرسي حتى آخر رمق، كرسي عليه رأس مقطوع، كرسي عالي جداً يجلس عليه الحاكم بينما الناس في الاسفل، كرسي له رجلين فقط، كرسي على شكل انسان اقتبسته من الفن الكنعاني حيث كان هناك آلهه على شكل كرسي. عملت بالخشب ايضاً شيء اسمه “LOST HORIZON” فحتى في بيتي الجديد عندما انظر الى الشرق ارى عمارات ضخمة كلها فارغة لكنها تغلق على المنظر الطبيعي وعلى المساحة. استخدمت بهذا العمل اربع قطع خشبية طويلة فيها مواد مختلفة كالزجاج والخشب والنحاس والصور والكتب وقطع الخشب المحفورة، وقد عرض العمل في “قنديل” بالقدس. الخامات الطبيعية التي استخدمها هي نفسها الوان وهذه الاعمال فيها شيء من هذا القبيل وليس مجرد دهان وانتهينا بل مواد طبيعية. حتى بالمناظر الطبيعية وبشجر الزيتون استخدمت خامات محلية لكني ادخلت الاكريليك لكي يتأكد المنظر ويأخذ شكله. انا اعتبر اللون من أهم عناصر اللوحة حيث يتوجب بان يكون اللون جذاباً وان ينسجم مع بعضه البعض. هذا شيء اساسي بالنسبة لي. بالدرجة الثانية يأتي المضمون او “الكونسيبت”. دائماً افكر بالمضمون كمعرض “ناس وكراسي” مثلاً.
وكيف تفسر التناقض بين الالوان الزاهية والاسى الذي ينعكس عن الكثير من اللوحات؟
عامة انا لا اتواصل كثيراً مع التعبير الضاحك. انظري الى الفنانين بالعالم مثلاً تجدي بأن الموناليزا حتى ابتسامتها حزينة. اللون يلعب دور والتعبير يلعب دور والتقنية ايضاً وكلها تترابط مع بعضها البعض لتشكل موضوعاً درامياً بالنهاية يحكي عن “كونسيبت” معين. انا شخصياً ارى بأنها متناسقة مع بعضها البعض. من جهة أخرى الوضع الفلسطيني لا يفرح سواء على مستوى السلطة الفلسطينية او على مستوى اسرائيل. لم اكن اريد استخدام التعابير الحزينة ولكن على الاقل أكتفي بألا تكون ضاحكة. بنفس الوقت، الالوان الجميلة والزاهية تبعث التفائل وتخلق نوع من التوازن بين الحزن والفرح. انا لا اقصد ذلك ولكن حسي يقودني الى هناك ربما. انا احب فلسطين والمشهد الفلسطيني- القرى والمدن والناس. احب فلسطين كمجتمع بغض النظر عن السلبيات والتناقضات، وانا اعبر عن حبي بطريقتي. بالنهاية الوطن بحاجة لأن يضع كل انسان مجهوده بطريقته وبمجال عمله حتى تبقى فلسطين فلسطين.
أعمالك الأخيرة مختلفة ولو أنها لا تخرج عن هذا الاطار؟
بدأت أهتم أكثر بالمواضيع الانسانية التي يعاني منها كل فلسطيني كالحواجز والاستيطان ومشاعر الناس حيال ما يجري يومياً وما اراه من خلال مشاهداتي. سفري وزياراتي المتكررة جعلتني اشعر بصعوبة الاحوال على الانسان الفلسطيني أكثر فعبرت مثلا خلال الانتفاضة الاخيرة عن سهولة القتل وكيف مجرد ان قرروا ان يقتلوا فتاة او طفلة صاروا يرمون بجانبها سكيناً. رسمت عدة لوحات عن حاجز قلنديا وحتى في “اللاندسكيب” كنت ارسم احياناً منظراً رائعاً لأضع مستوطنة على الجبل تجعله بشعاً- داخلياً يشعر الانسان بأن وجودها خطأ وبأنها ستتوسع وتسرق المزيد من الاراضي.
كما بدأت الخص الالوان لان الموضوع لا يتطلب الواناً جميلة بل ألوان تعبر عن الوضع الراهن، لهذا اختزلتها وبدأت اقلل من الوان الاحمر والاخضر الفاتح مثلاً بينما سيطر الرمادي لا سيما وأنه لون وسطي وليس لوناً فرحاً بشكل خاص.
هذا يعني بأنك لم تعد متفائلاً ايضاً؟
دائماً لدي تفائل ولكن بهذه المرحلة هناك شعور بأن الحلول بعيدة ان كان على مستوى الوضع الفلسطيني المقلق او الاسرائيلي، وبالتالي بدأ نوع من عدم التفائل يتسرب تدريجياً ولكن لدي أمل فمهما طال الزمن من لديه حق ويطالب به لا بد أن يحصل عليه وكل هذا حاضر باللوحة او بالعمل الفني.
هل هناك أعمال عزيزة عليك بشكل خاص؟
هناك عمل بيع في الامارات يعبر عن “الربيع العربي”، انجزته في بداية تلك الفترة عندما تفائلنا بأن يخلصنا الربيع العربي من المآسي. هناك لوحة أخرى عن حاجز قلنديا موجودة برام الله (اقتناها العبوشي) وهي تعبر عن الحاجز خاصة وأن منظر الناس وهي تنتظر وراء بعضها البعض والمعاناة التي يعانونها على الحواجز تؤثر بي كثيراً. شعرت بأن هذه اللوحة نجحت في التعبير عما اردت تماماً. هناك لوحات اشعر بأنها تعبر بنسبة 80% لنقل اما هذه فكانت بالضبط كما اردت. بعد الحرب الاخيرة على غزة، على فكرة، اخذوا لوحات لي ولسليمان وادخلوا اجزاء من اعمالنا مع منظر الخراب (ممكن استخدامها للفيلم).
وهل هناك اعمال تركيبية تحب ذكرها؟
كانت لدي خزينة قديمة احتفظت بها، قلت سيأتي يوم واقوم باستخدامها بعمل فني. وبالفعل عندما جاء وقتها، رسمت بداخلها بنت فلسطينية فالناس بالفعل تعتبر المرأة أحياناً شيئاً يضعونه في البيت ويغلقون عليه. لا يوجد لدي عمل على فكرة لا تظهر المرأة فيه. بالنسبة لي هي رمز للوطن لهذا فهي متواجدة دائماً ولو أنها تخرج معي بشكل تلقائي. هي المناضلة وام الشهيد والسجين والتي ترعى البيت والخ ولكن على المستوى الجمالي أيضاً استطيع ان اتصرف بالمرأة أكثر من الرجل- بثوبها بشعرها بإنسانيتها فكل الناس تتعاطف مع المرأة. ببساطة انا احب ان ارسم المرأة أكثر من الرجل!
صحيح بأنك اقمت معرضاً في بيتك الجديد؟
عندما بنيت البيت تشاركت مع ابني يزيد فهو الذي صمم وهندس البيت خاصة وانه بيت فني لا يستطيع أي مهندس تخطيطه. اقامة البيت استغرقت ثلاث سنوات، “غلبني كتير”، حتى جهز بال-2012 فالحديث ليس عن بيت تقليدي- الباب علوه 3 امتار مثلاً. اتصور بأنني راضي عنه ولو ليس مئة بالمئة فهناك ثغرات للأسف لدى العامل الفلسطيني. بالنهاية الكثير من الناس ارادوا رؤية البيت فخطرت ببالي فكرة ان اقيم معرضاً وان ادعو كل الناس مرة واحدة. عملتopen house وكان حدثاً جميلاً بحق فالناس دخلت لتجد العمل الفني بمكانه الطبيعي. حوالي 20-21 عمل موزعة في انحاء البيت، حتى بالمطبخ كانت هناك لوحات. شعرت بأن الفكرة نجحت فقد كان لها اصداء (حسن البطل كتب عنه بالجريدة).
ومرسمك يتواجد هناك طبعاً؟
نعم، في البداية اردت بأن يكون بالطابق الثاني ولكن عندما انهينا البيت شعرت بأنه لا استقلالية لدي هناك وبأنه يقيدني من ناحية استخدام مواد معينة او اخراج اللوحات لتجف فنقلت للطابق الاول مع مدخل منفصل وساحة كبيرة بشجر صنوبر- المنظر الطبيعي يساعدني كذلك.
بأي فنانين تأثرت؟
التأثير كان بالبدايات اما بعد ذلك فقليل جداً. في البدايات تأثرت بغوستاف كليمت الذي كنت احبه كثيراً. بفترة من الفترات تأثرت بسيزان الذي يعتبر اب الفن الحديث ولو انه من المدرسة الانطباعية ولكنه لم يمشي على قوانين الانطباعيين مئة بالمئة بل خرج عن المألوف كما رسم المناظر الطبيعية بطريقة ناعمة وجميلة. تأثرت به خاصة بعد ان تخرجت. احببت بول بوغان ايضاً والالوان التي كان يستخدمها. هناك ايضاً بول كليه، لوحاته صغيرة ولكنه ملون من الدرجة الاولى لا يعلو عليه أحد بالون.
بالعالم العربي احب الفن السوري والعراقي والمصري. بشكل عام تأثرت بالفنون الاسلامية خاصة بعد ان كنت بزيارة الى لندن- ذهبت الى زيارة ابنتي عام 2006 اعتقد وصدف ان اقيم معرض للمخطوطات العربية القادمة من ايران وسوريا والخ فانهوست عندما رأيت هذه المخطوطات- فن عظيم بحق. رجعت مشحوناً واشتريت الكتب وجمعت الكتالوجات وبدأت اعمل بتأثيرها. في نهاية 2007 اقمت معرضاً في لندن بهذه التأثيرات كان كله على ورق ولقي نجاحاً باهراً (افتتحه رئيس حزب العمال في بريطانيا اليوم والذي كان عضواً في البرلمان بحينه). كل اللوحات بيعت ولم تعد اية لوحة الى البلاد. كنت قد استخدمت الخط العربي قبل ذلك ولكن بعد هذه الفترة زاد استخدامي له ولو انني مللت منه فيما بعد. “بزهق انا وبغير على طول”.