نبذة عن الفنان
فنان تشكيلي فلسطيني من مواليد مخيم جباليا في قطاع غزة عام 1959، ومقيم منذ سنوات في رام الله. يعتبر بركات، عضو رابطة الفنانيين الفلسطينيين منذ عام 1984، من المبدعين ذوي النَّفَس الطّويل وأحد الفنانين التشكيليين المؤسّسين لمرحلة مهمّة من الفن التشكيلي الفلسطيني، ومن الذين اجتهدوا طوال سنوات حياتهم لكي يجدوا هويتهم الإبداعية والفكرية وشخصياتهم الخاصة. كما أنه من أهم الفنانين الذين أخرجتهم غزة بمشواره الفني الذي يمتد على مدار أكثر من ثلاثين عاماً
ويقول بركات الذي حصل على درجة البكالوريوس في الفنون الجميلة من الإسكندرية عام 1983، حين يعرف عن نفسه: “بدأت رحلتي بصقيع جباليا في الصباح وتحديداً ذهابي الباكر إلى مدرستي “مدرسة أبو حسين” وتلصصي في الدخول إلى غرفة الناظر. كنت اقف خلف جذع شجرة كينيا ضخمة منتظراً فتح غرفة ناظر المدرسة بشغف لا يقاوم ومنتظراً أكثر انصراف الآذن لشؤون المدرسة الأخرى فأدخل متلصصاً أهيم عشقاً في تلك اللوحات المعلقة في الغرفة إلا أن جاء حظي السيئ فضبط متلبساً في صباح أتى فيه الناظر أبكر من المعتاد ونلت ما يحلو من عقاب على أصابع طفل متجمد من البرد.”
ويعلق على فترة اقامته في مصر بقوله: “لم يحفر عميقاً في ذاكرتي الخمس سنوات الأكاديمية التي درستها هناك ولم تجعل مني تلك السنوات فناناً ولكنها لحظات وذكريات وطقس ورائحة اختلطت بطفولة جباليا وخلفت مزيجاً أجيد التعبير عنه بالرسم أكثر بكثير من هذه الكلمات.” ويستعيد أيامه هناك ليعود الى متحف محمود سعيد: “أستذكر القصر ببهوه وأعمدته التي استطالت في لا شعوري أكثر من واقعيتها التي لا تزيد عن الثلاثة أمتار وأصبح البناء أكثر فخامة في ذاكرتي، فقد كنت أقيس الأشياء كما أعرف- مخيم جباليا والذي لا يزيد ارتفاع أعلى شباك فيه عن الأرض بالمتر ونصف، ناهيك بأني اعرف أغلبية شبابيكه التي تتساوى مع الأرض وأعرف إعدادا أكثر من الشبابيك والتي يكون منسوبها 5 أمتار تحت سطح البحر. أخذني هذا الفنان المرهف وصفعني بالوجوه النضرة وتصويره الدقيق للحفلات الأرستقراطية ولحقبة من تاريخ مصر عاصرت الفترة الباشوية واللحظات الأخيرة من زوال حقبة من الحكم التركي لمصر. كان الفنان محمود سعيد أميناً في حزنه على زوال هذه الفترة وكان تعبيره أميناً في توثيقها.”
بعد تخرجه وعودته الى البلاد انتقل بركات مباشرةً الى قرية دير غسانة (25 كم من مدينة رام الله) هناك قضى قرابة الشهر لينجز 15 لوحة وليقيم معرضه الفردي الاول في ساحة القرية. وتكتب الفنانة والباحثة سامية حلبي في هذا السياق: “هناك في دير غسانة نذر تيسير نفسه للحضارة القديمة لبلاده وبلادي، لرسوماتها ولإيحاءاتها.. الايحاء الذي حصل عليه من معايشة الحياة في القرية الفلسطينية ترك فيه انطباعاً راسخاً- انطباعاً مرتبطاً بشكل حميمي مع ترعرعه بمخيم لاجئين. في دير غسانة اكتشف تيسير مصادر قوة اللاجئ.” وتؤكد حلبي بأن “تيسير بركات ينظر الى فنه كإعادة تأكيد للفن الفلسطيني القديم. وبالفعل، اذا ما قمنا بالبحث عن الأسلاف القدامى للعالم العربي المعاصر فسنجد مصادر تعبيره البصري وفكره.. الفنون العراقية، الكنعانية، الفينيقية والمصرية القديمة حاضرة بوضوح في أعماله ان كان على المستوى البديهي او المدروس”.
ولطالما تطلع بركات الى المساهمة في بناء فن فلسطيني وعربي معاصر على أن يكون الاساس لهذا الفن هو تاريخنا نحن وليس الاعتماد على المصادر الامريكية والأوروبية. وهو يولي في هذا السياق أهمية كبيرة لكون الرموز في أعماله رموزاً اجتماعية ولكون مجتمعه قادر على فهمها بصفتها تنبعث منه وتعود اليه. وكما تشير حلبي: “على العكس من الرسامين الاوروبيين والأمريكيين المعاصرين، فتيسير ليس معنياً ب”الرمزية الفردانية” لا سيما وأنه يرى بأنها تنطوي على تناقض ضمني فالرمزية تهدف بطبيعتها الى ايصال فكرة مشتركة وعليه لا بد لها أن تكون اجتماعية لا فردانية.. تيسير يشبه بهذا المعنى الكثير من فناني عصرنا الذين يدعمون تحرر المجموعات القومية والطبقات العاملة، والذين يعتمدون التكعيبية في أعمالهم كأساس لبناء العمل الفني. أمثلة جيدة عن ذلك نجدها في الرسومات الرائعة لفناني الجداريات المكسيكيين كدييغو ريفيرا، خوسيه كليمنتي اوروزكو، دافيد الفارو سيكيروس وغيرهم.”
تمكن الفنان بركات بموهبته الفنية التي لا تشوبها شائبة من تنفيذ تراكيب مؤثرة، حيث تتشابك لوحاته بواقعه المتمثل في كونه ابن لاجئ وخاضع للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. ولكن برغم هذا الواقع المتجهم، إلا أنه لا يمكن اعتبار لوحاته خالية من الأمل أو اعتبارها مليئة باليأس؛ بل إن ما يهمه هو السرد، أن يخبرنا عن قصته أو قصة شعبه من خلال فنه. وعليه، ليس من قبيل الصدفة بأنه يصف أعماله كفسيفساء من الصور تعكس تاريخ فلسطين العام ونضاله الشخصي في العيش تحت الاحتلال.
وكما يشير الكاتب منذر جوابرة: “ما يميز الفنان بركات في شخوصه، أنه يعكس علاقة متينة بين مفهومين، المكان والإنسان. ففي نظرة محلية تجد الإنسان الفلسطيني الذي ينتمي للمكان وما يعانيه من تفاصيل حياة ملآ بالتحدي، والمعاناة والانتظار. حركة أعماله مأخوذة من المكان، ولم يتجاوزها الفنان، بل بقي مخلصاً لها وعاملاً طوال الوقت على تطويرها وتقديمها بعدة وسائط مختلفة. أما في نظرة تتجاوز المكان الفلسطيني، فنلحظ الخطاب الإنساني خارج فلسطين أيضاً وسهولة فهم وانتماء العمل لحيوات أخرى انسانية. وهذه لا تأتي بسهولة، وإنما تحتاج للتجريب والصدق والتواصل مع شخص الفنان وما يحمله من أفكار ورؤى خاصة، وبين طرق المعالجة التي يحتاجها العمل دون الوقوع في التكرار والتشابه.”
ويؤكد الكاتب راضي شحادة من جهته على ذلك حين يقول: “لدى تيسير ميلٌ جارف الى ربط ما خزّنه بداخله من تقنيات وصور من الماضي والحاضر، وامتداد لأشكال من حضاراتنا القريبة منا جغرافياً والبعيدة زمنياً كالفرعونية والكنعانية والسريانية والآشورية، وصولاً الى شرق آسيا وحتى ثقافات الإنكا. يبحث بشكل دؤوب عن النفس البشرية المنتشرة على سطح الكرة الأرضية، ولكن كينونتها النائية التي تشكل نتاجه النهائي كامنة فيه هو الفرد الفنان المعبّأ بفلسفته الخاصة المنطلقة من باطن مخزونه الفردي الإبداعي الخاص الى الظاهر المرئي أمامنا على شكل لوحة تبدو في معظم ما أنتجه وكأنّها رقيم (أثريّ)، وحتى وإن احتوت على حَيَواتٍ من الحاضر الحي فهي تبدو للناظر وكأنّما هي نتاج تنقيب عن أحفوريات لمخلوقات رحلت عن عالمنا، فإما أنّها استقرت في الأرض بأشكالها المتحولة من حالتها الجسدية المكوَّنة من لحم ودم الى حالات تختلط فيها أشكال مدفونة مكشوفٍ عنها، مع أشكال لأرواح طائرة هائمة “مُتَمَرْفِزة”(متحولة)، وخيالات و”سيلويتات”(خيال الظل)، تنبئك بأنّ هذا الباطن المتخبّط المرتبك المهموم القلِق الحالِم الباحث ناتجٌ عن سرّ علقتنا منذ لحظة انطلاق هذه الكينونة البشرية بين دفّتي الولادة والموت، وكأنما يريد أن يقول لنا بأنّه ليس متأكدا بأننا سننشطر في النهاية الى حالتين إحداهما أرضية مدفونة وأخرى سمائية سابحة في الفضاء. تبدو خيالاته الرقيمية وكأنما هي انشطار كلي للروح عن الجسد. إنّها لوحات على شكل شطحاتِ ريشةِ فنّانٍ حالم، وعلى الرغم من أنّك لأول وهلة تجد فيها العفوية وبراءة الأطفال إلا أنّها نابعة من عمق الوعي والنضوج. إنّ قوة وعالمية لوحات ورسومات تيسير بركات تكمن في مقدرته على تجيير السهل الطفولي العشوائي التجريبي الى فلسفة صعوبة السهل الممتنع.”
وحول معنى الشخصيات المحلقة في أعماله بعيداً عن بقية المجموعة يقول بركات: “مجموعة الصور هذه تشكلت بتأثير الأجواء في مخيم اللاجئين وذكريات الطفولة. الشخصية الوحيدة هي فكرة كانت معي منذ الطفولة، وهي تعني الحرية والهروب من الواقع ومن ألم المخيم.” ويضيف: “جدتي حكت لي القصص الميثولوجية لفلسطين وحين كبرت صرت أحترم وأفهم أهميتها. وقد صرت آخذ المقتطفات من الأدب ومن الصور التي تظهر كيف عاش أسلافنا القدامى، كيف أحبوا، قاتلوا وعملوا على هذه الأرض”.
يرى بركات في بحثه عن المواد جزءاً هاماً من شكل وجوهر العمل على حد سواء. وهو يتقاسم في هذا السياق طموحه لاستخدام المواد التاريخية مع كلا الفنانين مصطفى الحلاج وسليمان منصور. كما يتقاسم معهما تعامله مع المادة كجزء من المضمون- أي أن البحث عن المواد الملائمة ليس بحثاً عن الشكل فقط انما عن المعنى الذي يمكن تمريره من خلال استخدامها. وقد استخدم بركات في سنواته الاولى الزيت على الخشب. ولكنه استغنى عن الزيت بعد أن شعر بأنه لا يناسب احتياجاته. وصار وما زال يستخدم الكولاج وكذلك الأحبار والصباغ على الورق كما جرب الجرافيتي والألوان المائية والوسائل الفنية المختلطة. ويوضح شحادة في هذا الخصوص: “لا يقيِّد تيسير مختبره بمادة معينة بعينها فهو يتنقل في عمله من الأكريليك الى بَرَادَة الحديد الى الخشب والخشب المحروق، الى جبلات وخلطات لمواد متلاحمة ومتناقضة ومواد لاصقة، وكل ذلك رهنٌ للاختبار والتجريب، فقد يعرض المواد للحرارة والبرودة والتذويب والتلصيق الى أن يصل الى اكتشافه. إنّه يجيّر عوامل الطبيعة في بَرْدها وحرِّها وتقلُّباتها لكي يصوغ شكل وألوان مخلوقه المنطلق الى الحياة على نار هادئة وبنَفَسٍ طويل.” وقد ابهر بركات في تحويل برادة الحديد- القوي والصلب الذي تصنع منه الطائرات وآلات الحرب- الى لوحات فنية دقيقة التفاصيل. وهو يقول بأن ما دفعه لاستخدامه هو “محاولته ايجاد حوار لمناقشة الغبار الناجم عن الدمار”. أما عن اختياره معالجة الخشب بالنار فيوضح: “لقد اخترت الخشب والنار كي أخلق حالة جديدة من هذين المتناقضين، وأبدل حالة الإفناء التي يمارسها أحدهما على الآخر، ومنهما حاولت إطلاق رسالة حول قضية شعب ومعاناة يومية نعيشها في الأراضي المحتلة. الخشب عدو للنار وعدوه اللدود وهاتين المادتين من المواد الاولية للحياة- اذا لامست النار اكثر مما يجب تحرق، لذا هذه الملامسة بين النار والخشب هي كالحب فدرجة الملامسة ونوعها هي التي تكفل عملية الاحياء والتألق واستنطاق الطاقة الكامنة من المادتين”.
يميل بركات عادةً الى ترسيخ جو أحادي اللون في أعمالة فنراه يستخدم في كثير من الأحيان الأبيض والأسود فقط. وحتى بعد ان خاض الحرق على الخشب وأضاف له الصباغ فقد بدت هذه كاستمرارية لأساليبه المبكرة من حيث ان الحروق السوداء على خلفية الخشب الطبيعي تبقى احادية اللون ودراماتيكية في تناقضها. وتنم أعماله هذه عن حساسية لعلاقة السالب\الموجب بين الشخوص والخلفيات، وهو النمط الكامن في فن الخط العربي بوضوح.
لم يغادر تيسير بركات مدرسته او مذهبه في الشكل والمضمون منذ بدايات طريقه في الرسم. بقي متشبثاً في فلسفته الخاصة باحثاً عن تقنياته من مواد وأدوات جديدة ومتجددة يستعملها لكي يحقِّق فلسفته التي تميزه بشكل واضح عن غيره. ويلخص الكاتب منذر جوابره الى القول: “لقد قدم بركات خلال مسيرته الفنية العديد من التجارب والأساليب ذات البعد التجديدي التجريبي والتي تجاوزت الأساليب المتبعة آنذاك في تجربة الفن الفلسطيني. كما قدم بعدها مجموعة أعمال أخرى تقدم رؤية فنية معاصرة مازجاً ما بين رسالة الأسرى الفلسطينيين الإنسانية، وتقديمها بصرياً في قوالب زجاج تنتمي للتجديد أيضاً في مشواره الفني بالرغم ان العمل بقي على سياق سياسي بالدرجة الأولى. الفنان تيسير بركات، اسم ينتمي لتاريخ الفن الفلسطيني الحديث في بداية الثمانينات والتسعينات، وفي أكثر الأوقات حاجة للفن، وفي زمن نسيان الفن من أجل القضية الفلسطينية، فقدم نفسه في زمن فلسطيني داخلي منشغل بكل وجدانه في مجابهة الاحتلال دون الانتباه لأهمية الفن في فعل هذا الدور، بل الفنان وحده مع مجموعة زملاء مهمين كان لهم الأثر في خلق هذا التواصل الفني بين الداخل والخارج، وبين وضع لبنات أولى لمرحلة قادمة نعيشها الآن من خلال التجديد والمعاصرة.”
يقضي بركات معظم وقته بين مرسمه وبين مقهى زرياب الذي افتتحه في رام الله منذ سنوات والذي يعرض فيه لوحاته ولوحات وأعمال فنانين فلسطينيين آخرين. من الصعب أن نحصر قائمة معارضه، ولكن نذكر من بينها معرض بينالي ساو باولو الدولي عام 1997، ومعرض النمسا عام 2006، ودمشق عام 2010، وبينالي الإسكندرية عام 1989، وروما (1989-1996)، ومتحف الفن الحديث في ستوكهولم عام 1996، ومعرض مقر الأمم المتحدة في نيويورك عام 1997، ومعهد العالم العربي في باريس عام 2000، وبينالي الشارقة عام 2003، ومتحف الفنون المعاصرة في هيوستن بولاية تكساس، ودبي وغيرها الكثير
أنا نحن، انا شعب لم يولد بعد، أرغب في أن أكون في الماضي او في زمن آخر. سأقيم المعارض الجماعية في كواكب عدة، منها المشتري وزحل وعطارد. أفكر في ثلاثة معارض شخصية في المريخ وبلوتو وكوكب الأرض..لا اسم لي ولا شكل..لا قيمة لي في هذا الزمن. يمكن أن تجدوني ميتًا في نَفَق على الحدود المصرية، او متَسوِّلاً في أحد شوارع نواكشوط، او في حاوية قمامة في مخيم جباليا، او في كيس اسمنت في أبو ديس، او في برعم وردة على شواطيء الهادي، او غريقاً مختنقاً بالهجرة والملح على أوّل الدردنيل، او طائرا مبلَّلاً بالبترول على شواطيء الخليج العربي. أنا أخوكم، أنا لا شيء، أنا صُدفة، أنا نَفَق، أنا دبابة، أنا كيس طحين، أنا بيت مهدوم، أنا جرح نازف، أنا جَرَّة غاز، أنا ديكٌ أعرج، أنا سيارة إسعاف، أنا جدار ينتظر الهدم، أنا علبة صفيح، أنا شجرة يقطعون مني كل يوم غُصناً ليطبخوا طعام أطفالهم، أنا رصيفٌ مُهشَّم في غزّة هاشم. ربما أنا فاسد، ربما شجاع، ربما طيب، ربما غلبان..انا تعبان.”
هذا ما كتبته عندما كان علي أن أكتب سيرتي الذاتية.
حدثنا عن عائلتك. احكي لنا القصة منذ المجدل.
ولدت في مخيم جباليا في 17.8.59. أهلي من بلد أسمها المجدل. تربيت على حكاياتهم ووجعهم عندما هجروا. عملياً كل القصص التي كانوا يقصونها كانت عن المجدل وعن أيامهم وحياتهم هناك. لهذا، فمنذ ان كنت صغيراً حملت وجعاً غريباً من هذه القصص. كان لدي عم ناشط في المقاومة ومعروف. آخر عملية شارك بها كانت عام 1956، لم أكن قد ولدت بعد. هو مفقود حتى اليوم ولا نعرف أين هو (من غير المعروف إن كان حياً أم ميتاً). جدتي كانت تحبه كثيراً وعاشت بقية عمرها وهي تنتظر عودته. كانت تنتظر في كل يوم بجانب دكان في الحي عساه يطل عليها. بقيت سنوات على هذه الحال حتى توفيت وهي تنتظر. رسمت لعمي هذا لوحة بإمكاني عرضها عليك (مرفقة مع الصور).
باقي العائلة كلها في غزة؟
نعم. نحن كنا 3 أخوة و4 أخوات بعد أن توفي أخوة آخرين- فتحية ومنى وفاطمة ومحمود وناصر. الخمسة ماتوا وهم أطفال بسن 4 سنين، 6 والخ بسبب الأمراض فلم تكن هناك عناية وطب. اللذين نجوا كانوا انا وسامي الأكبر مني وياسر الذي في أمريكا وأخواتي فوزية وأسماء وهدى وحنان.
وأنت الوحيد من بينهم بالمجال الفني؟
نعم، لا أحد من بينهم يعمل بمجال الفن، فقط ياسر بالمجال الموسيقي. من المصادفة بأنه تتلمذ على يد منير بشير. أعتقد بأن ابنه عمر سوف “يتحفنا” في هنغاريا. له مقطوعة اسمها “كرفان”، رائعة بحق.
أظن أن من جعل مني فناناً دون أن يدري كان والدي. فقد كان يتاجر في الخضار والفاكهة ويأخذني معه إلى البيارات والحقول وأنا صغير. أحياناً كنت أنام معه هناك في الحقول. الطبيعة والفجر ولون الشمس ورائحة الخضار والشجر وصوت العصافير- هذا الاتصال مع الطبيعة أحدث شيئاً في نفسي خاصة وأنني كنت ما أزال صغيراً. نحن نتحدث عن جيل 3 سنوات وما فوق. منذ أن كنت صغيراً كان هناك شيء ما أريد أن أعبر عنه، وكانت الطريقة هي الرسم. في المخيم (جباليا) لم يكن هناك من يهتم بهذه الامور، لم تكن رعاية لمثل هذه الموهبة ولكنني كنت مصراً منذ أن كنت صغير السن بأنني أريد أن أدرس الفن في الخارج لا سيما وأنه لم يكن هناك في غزة من يعلمني. ونجحت في النهاية. كنت أدرس لكي أنهي التوجيهي وأنجح فعلاً بالسفر، وهذا ما حصل.
والوالد كان ما يزال على قيد الحياة؟ ماذا كان موقفه؟
كان ما يزال حياً. لم يكن لدى العائلة ككل اعتراض لأن المجدل كانت بلد حضارية ومتفتحة والى حد ما كانت هناك حرية بين المجادلة. ولكنه عندما اتى لزيارتي في الاسكندرية ورأى اللوحات والأعمال الأخرى، قال ابني ضاع، “راح الولد”.
وهل كنت ترسم من قبل، في البيت او في المدرسة؟
طبعاً. في المدرسة كانوا يضربونني لأنني كنت أجلس في درس العربية وانشغل بالرسم، في درس الانجليزية وغيره، فيضربونني. كان تفكيري هناك لهذا فقد كنت طالباً فاشلاً في المدرسة. لم اولي الدراسة اهتماماً، كل همي كان الرسم. عندما وصلت الى السنة الثانوية الاولى فهمت بأن علي النجاح لكي اتعلم في الخارج- هكذا أصبحت بالسنة الثانية الاول على المدرسة!.
كيف كانت الحياة في المخيم؟
من ناحية، كان هناك عطف، مشاعر وحب، قرب شديد، ترابط وحس جميل ولكن من ناحية أخرى، كانت المأساة والقصص والحكايات والفقر أيضاً. كنا فقراء. الحياة في المخيم كانت قاسية وليست سهلة ولكنها تركت أثراً كبيراً. طريقتي في التعبير لم تأتي برسم المخيم ولكن بالروح، وجباليا هو خليط لكل من هاجروا من فلسطين- هناك أناس من يافا، حيفا، عكا ومن كل البلدان. كنت أسمع لهجات مختلفة وأرى عادات مختلفة. في المخيم تعرفت تقريباً على ثلثي فلسطين، على نوعية الناس، بين منفتح ومتزمت، وكنت اسمع قصص أهل يافا والمجدل وسمسم وغيرها وكل هذا دخل الى الخزان او إلى ال”Hard disk”، حتى إلى “”D يعني لا يمكن “فرمتته”. مع الدراسة طبعاً صار هناك انفتاح على الدنيا وعلى العالم وعلى الحضارات الأخرى.، وأصبح هناك خليط بين هذا وبين قصتنا كفلسطينيين، قصة فلسطين عبر التاريخ وما مر عليها من حضارات- كل حضارة تركت بصمة، بصمة على اللغة، اللهجة، الطعام، طريقة التفكير. أنا أعتقد بأن بلادنا في منتهى الغنى ليس فقط من ناحية ثقافية إنما انسانية أيضاً. لقد مرت عليها تجارب متعددة وكل هذه تركت بصماتها. الفنان من المفترض بأن يخوض هذا العالم، بأن يستكشف هذه البصمات ويتتبعها ليرى ماذا ترك الرومان، الأتراك، الانجليز، الآشوريين، البابليين وغيرهم.
هناك الكثير من الرموز والإشارات في لوحاتك المستوحاة من هذه الحضارات. هذه جاءت نتيجة بحث واستقصاء؟ كيف بدأ اهتمامك بهذه الحضارات؟
لقد كنت نهماً في القراءة وما زلت. حتى الآن اقرأ كثيراً. اكتشفت بأن هذا حقل مليء بالورود المتنوعة. دور الفنان بأن يغوص في هذا العالم ويستخرج منه ما يستطيع. هذا ليس بالأمر السهل فهو بحاجة لمجسات خاصة- كيف ترى، كيف تحس، كيف تشم كل هذا العبق وتحاول أن تخلطه وتستخرج منه المزيد من ذاتك ومن روحك. هذا أمر بغاية الصعوبة. الفنان بهذا المعنى يشبه العالم ولكن بحثه لا يقتصر دائماً على الكتب فجزء آخر منه بالموسيقى، الشعر، التاريخ، القصص الشعبية والخ.
بعض رسوماتك تبدو وكأنها صور من الميثولوجيا الفلسطينية.
نعم صحيح.
قصتنا ليست سهلة وخاصة في هذا العالم. العالم اليوم تحول لقرية صغيرة، وبإمكانك معرفة كل شيء عن أي مكان. وفعلاً الفنان يشبه العالم ولكن أدوات البحث تختلف. بحث الفنان يكون عن طريق القراءة، الموسيقى، النظر، المعايشة، الاحساس، الغوص في تاريخ المكان، تذويته ومن ثم اخراجه. هذه مهمة وهي بحاجة لعدة وأدوات من نوع مختلف، وهذه طريقة لا تدرس- فهذا يعود للاهتمام الشخصي للفنان والاماكن التي تتجه اليها روحه أي ميوله وطريقة تفكيره.
لنعود الى موضوع التأثيرات التي يشير اليها خالد حوراني (هنا) مثلاُ في مراجعته لأعمالك. اتسائل ان كانت هناك مقولة تقف خلف اهتمامك بهذه الحضارات؟ هل يعني ذلك بأنك ترفض التأثيرات الغربية او ما يسمى اليوم بالعولمة؟
الفنان يجب ان يكون على دراية بما يجري من حوله، وطبعاً كانت هناك الكثير من الفرص منذ أن تخرجت وحتى الآن لإجراء زيارات سنوية للمتاحف والجاليريهات، واليوم بمساعدة الانترنت هناك امكانية للوصول لأي عمل لأي فنان بالعالم. اظن بأن أحد الامور المهمة بأن نكون على دراية بما يجري من حولنا لأننا جزء من التركيبة الانسانية كلها، وبالتالي، وجعنا هو أيضاً وجع انساني. في كتيب “غبار، حوار، حديد” من الأعوام 2008-2009، كتبت عن الفن، عن الفكرة، فقلت:
“اغمض الكف على ومضات من الزمان، أكون شاهداً بلا حيلة، أحياناً أغوص عميقاً في أسراري المدفونة، أتلمس في العتمة مشاهد اول عبد اقتادوه من أفريقيا- انساب مع دمعة خائفة على أطفال لن يصلوا أحياءاً إلى مرفأ نانت بفرنسا- حيرة ملوك الطوائف في الأندلس- كاتب يسطر قوانين حمورابي- امرأة تحمي طفلها- كاهن يقوم باغراء امرأة في القرون الوسطى- بعثة بابوية على أعتاب قلنسوة لتأمين كساء البابا- توسل شيخ زمن البرابرة- حزن أرملة على فقيد- طفل يبكي أباه الممدد وآخر يناجي أباه ولا يستجيب- عزاء في عتمة الدار- جنس يتفجر تحت شجرة- حب سنساب كخطوط الضوء على اول طريق الحرير- عجوز ترد مراهقة المحتلين بالحيلة- وصاحب دكان لا يتوقف عن تنظيف باب دكانه- طفل يتعفر بسواد الفحم في مناجم الهند- وطفل يحتسي حليب UN بالاكراه- شيخ يتكئ على عصا يبكي صباه- طفلة تداعب المرآة..”
هذه مشاهد، ومضات من الحياة، من الكون، منها القديم ومنها الجديد. عندما كتبت هذا كنت وكأنني أكتب روحي، ماذا أفكر وماذا أشعر.
اذاً انت لست ضد التأثيرات الغربية؟
الفنان هو جزء من هذا الكون. كونك فلسطيني لا يعني بأن تبقى محصوراً في القصص الشعبية.
سامية حلبي كتبت بعد مقابلة اجرتها معك (هنا) بأنه من المهم بالنسبة لك بأن تعمل فن فلسطيني وعربي معاصر ومن المهم بأن يكون أساس هذا الفن تاريخنا نحن وألا نعتمد على المصادر الاوروبية والامريكية مثلاً.
هذا الكلام غير دقيق. على الفنان أن يفهم كل شيء في العالم وأن يرى. رسالة الفنان ليست فقط رسالة محلية بل هي رسالة للبشرية كلها. أنا احاول ان اخلق لغتي الخاصة، كما انني من اوائل الفنانين اللذي عملوا بالتركيب (installation)، كعمل الصندوق ومعرض رسائل الأسرى. أعتقد بأنه يحق للفنان أن يغوص في كل شيء بهذا العالم وأن يفهم كل شيء ومن ثم يخرج خلطته الخاصة، روحه. كلام سامية غير دقيق. بخصوص مدى تأثري بالفن الغربي او غيره، فهذه قصة. لا أستطيع أن أجزم ولكنني اطلعت على اعمال كثيرة كما أنني احد مؤسسي الأكاديمية الدولية للفنون (في رام الله) التي تعنى بالفن المعاصر.
لكن معظم الرموز في أعمالك لها علاقة بتاريخ هذا المكان أو هذه المنطقة من العالم، ولا أقصد التاريخ الحديث فقط فهناك رموز مستوحاة من الكنعانيين مثلا أو الآشوريين كما ذكرنا سابقاً.
صحيح.
رموز أخرى بالإمكان اعتبارها إجتماعية، من الممكن لأي فلسطيني بأن يتواصل معها. بالمقابل، هناك نزعة غربية وربما عالمية للفردانية- بأن يخلق الفنان لنفسه رموزاً فردية تميزه وليس بالضرورة بأن ينجح شعبه في فك هذه الرموز. نظراُ للجانب الاجتماعي الكبير في أعمالك وارتباطها بالناس والشعب والتاريخ، بإمكاننا القول بأنك لا تنتمي للمدرسة الفردانية؟
صحيح لكن هذا التوجه هو أيضاً نتيجة بحث شخصي. الفنان يمثل اللاشعور الجمعي للمكان، للمنطقة وللإنسانية كلها. ذاته هو هي جزء من التركيبة من حوله. كيف يستطيع هضم هذه وصياغتها مرة أخرى ليخرجها الى العالم هذا هو بالتحديد الفن والعمل الفني. مرة أخرى هذه مسألة ليست سهلة بالمرة.
اذاً جاء ذلك بشكل عفوي وتلقائي؟ أي انك لم تقرر مسبقاً بأنك تريد عمل فن له بعد اجتماعي؟
ام أفكر بهذا قط، وحتى عندما ابدأ بالرسم، بغض النظر عما قرأت ورأيت والخ، أكون مثل الطفل. لا أفكر بأي شخص او بأي شيء، وطريقتي بالعمل طريقة عشوائية. لا تكون لدي أفكار مسبقة بل فقط كهرباء معينة، لا أعرف ما هي، وغالباً ما ابتكر طرق بالمواد الخام بحيث تعطيني المادة ايحاءات أيضاً، لهذا تكون هناك علاقة حب بيني وبين السطح الذي أعمل عليه او الصندوق او الخشبة. عملياُ أنا آخذ من العنصر الذي أعمل فيه وأعطيه. لا افتح صفحة بيضاء وابدأ بالتفكير ان كنت اريد رسم حمامة بيضاء هنا او رجل هناك. الامور تأتي هكذا ببساطة وسلاسة، مثل الطفل. (يحضر لوحة قيد العمل) تخيلي انا أجلس وانظر الى هذه المساحة بالساعات وابدأ اكتشف- هنا يوجد طائر، هنا يوجد امرأة، هنا كذا. أنا لا أقرر، أنا واللوحة نقرر سوية. أنا ارى العوالم الدفينة هنا.
والمواد- حدثنا كيف تطورت علاقتك معها فقد مررت بالعديد من المراحل بهذا السياق من الخشب لبرادة الحديد لغيرها.
المواد انا اعتبرها وسيط لحمل الفكرة، وبالتالي، ليس منزلاً بأن يرسم الفنان بالألوان او بالزيت. أنا ارى اية افكار تخطر لي ومن ثم ابحث عن المواد التي تستطيع حملها. لهذا، فهناك بحث وتغيير كل الوقت. أحياناً كنت أرى بأن الزجاج هو الذي يستطيع نقل فكرتي، أحياناً الرمل، برادة الحديد، الخشب والخ. من المفترض بأن يجد الفنان دائماً الحاضنة الصحيحة لحمل فكرته. من هنا يأتي البحث الدائم بالمواد. درست الزيت وفوراً انتقلت الى الاحبار والاصباغ ومن ثم الى الطباعة، الخشب، برادة الحديد، الاكريليك. لا يوجد لدي ثبات على مادة معينة. دائماً هناك تنوع وهذا التنوع أساسه الفكرة او الاحساس. عندما كتبت عن علاقتي بالخامة (في “غبار، حوار، حديد”)، قلت عن برادة الحديد مثلاً:
“انها كائن حي، انها تنبض وتتنفس وتقيم حواراً- تعطيك أسرارها الدفينة اذا فهمت وتعطيك أكثر اذا عشقت، تحاور، تنطوي أحيانًا واحياناً أخرى تنعزل- تتفتق- تتملق- تستتر- تتوارى- تفاجىء- تتسسلل- تعانق- تتصادم، وبالعشق تتجلى- وبالفهم تشرق وتنير- أمضيت عاماً اتلمس قسماتها، تصورت اني العارف واني اعرف أنها تحمل بذرة النطق وأسرار هذا الكون- أعرف أنها من المكونات الاولى لعجلة حمورابي والقاطع في السيوف الدمشقية واللبنة الاولى لحاملات الطائرات الامريكية وللفرن الذي لا يجد الغاز في غزة ولوتد يبحث عن خيمة في الربع الخالي- لا زلت أشم حديد الإناء الذي طبخت أمي فيه لأخوتي لعقدين من الزمان- أصحو صباحاً قبل بزوغ الفجر لأرى ما حل بجزء مني، هل انطوى؟ هل أشرق؟ هل تقاعس؟ ما الذي يستنطق هذه المادة، أهو البرد؟ أم الرطوبة؟ أم عصير الرمان؟ تتبعتها ألف ليلة وأكثر من شمس وثلاثة أرباع رطوبة الليل وخمس السنة صقيع- كانت تتكشف لي أكثر من ينابيع الماء احياناً وتنغلق على كنوزها عند احتباسي احيانًا أخرى- تعطي عندما أشرق بأسراري وتنحبس عند اسدال ستائري على روحي- أدفيء جزء منها ليلاً واعرض اجزاءًا للشمس وأخبئ أطرافاً منها للبرد وأتسائل هل الصقيع يلفح وجهك أكثر من تموز؟ هل غمام الليل مع رذاذ الماء يجعلك أكثر تعقلًا؟ هل أنا على مشارف المعرفة البكر؟ هل اقتربت من الملامسة؟ هل بت على أعتاب الهالة؟ أم أخطو لأكتشف أني بعيد.”
هذا عن مادة واحدة استخدمتها، أصف كيف اقيم علاقة حقيقية وصادقة مع المادة، أحبها، وبالتالي، احاول ان افكر كيف أجعلها تنطق هي.
المادة اذاً هي ليست مجرد وسيلة ولكنها جزء من جوهر العمل؟
بالتأكيد. خذي الصندوق مثالاً- كيف ممكن ان أعبر عن ذلك بالرسم؟ صعب جداً. كان يجب أن يكون هناك صندوقاً وفيه سبعة جوارير ليحصل ذلك.
كيف وجدت الصندوق بهذه المناسبة؟
من شخص كان يبيع المهملات وكان يحضرها من اسرائيل وعلى ما يبدو أحضر أغراض كانت للجيش الاسرائيلي. في البداية كانت عليه كتابات بالعبرية وبقايا اوراق كتب فيها “يهود قادمون الى المجدل.. يهود قادمون الى عكا.. الى حيفا”. كان والدي قد توفي حديثاً (1997-1998).
الصندوق هو مثال جيد على أعمالك لأنه لا يقص قصة الوالد فقط انما قصتنا جميعاً.
طبعاً فقصة الوالد هي قصة فلسطين.
حتى ان السلطات الإسرائيلية صادرت الصندوق مرة وأزالت عنه الملصقات!
صحيح. كنت سأموت لو أنهم لم يعيدوه. استعنت بالمحامي مازن قبطي لكي استرجعه. كان صديقي وطلبت منه أن يتدخل بالموضوع.
ماذا عن الألوان؟ مع انني رأيت الآن جزء من اللوحات الجديدة والتي تظهر فيها الألوان ولكن بكثير من اللوحات يطغى اللون الاسود أو البني المحروق. هل تعود الى الالوان بفترات معينة؟
حسب، لا أدري. أحياناً أفضل السواد وأحياناً البياض. لا أقرر ولا أفكر ماذا أريد أن أعمل، “على البركة”. اعتمد على هذا المخزون المتواجد في داخلي. لا اريد ان اقول عنه الصندوق الأسود بداخلي بل الأبيض.
اذاً اختيار الالوان لا يدل على التشائم او التفائل بالضرورة؟ مثله مثل الشخصيات التي تحلق في السماء والتي تظهر في بعض اللوحات والتي بالإمكان ربطها بالحرية والانطلاق أو بالموت والانعتاق.
أظن هذه هي الحياة بشكل أو بآخر. الليل والنهار. الحب والكراهية. فيها كل التناقضات التي نفكر ونحلم فيها. قد تكون لدينا هنا جزئية مختلفة قليلاً كفلسطينيين وكون حياتنا غير سهلة، وبالتالي، كل هذا يظهر من خلال العمل الفني- الحب والجنون ومخيم جباليا وحاجز قلنديا وأمور سوداوية أحياناً أو فرح بأحيان أخرى. اتصور بأن اختيار اللون يعكس الحالة التي يعيش فيها الفنان. تمر فترات يطغى فيها الاسود والبني وفترات أخرى تكون هناك بهجة واشراق. أهم شيء بأن يكون الفنان حقيقي. بألا يرسم من أجل الشهرة أو هذه الامور. هناك قصة في رأسه يجب ان تخرج.
وانت تحكي الكثير من القصص خاصة باللوحات المكعبة التي تشبه القصص التي كان يرويها ابناء الحضارات القديمة بالرسم على الحيطان كالفرعونيين مثلاً.
صحيح، انا تأثرت بهذا الشيء. واحدة من ميزات الشرق العظيمة بأننا لم نرسم ما تراه العين بل ما ورائه، أي ما وراء الطبيعة. هذا الفرق بين وجهتي نظر في هذا العالم، وجهة نظر الشرق التي تؤمن بما وراء الاشياء أو ما وراء الطبيعة ووجهة نظر الغرب التي تؤمن بالواقع الملموس او المحسوس، بالنظريات العلمية، “واحد زائد واحد يساوي اثنين”. من فجر التاريخ كان الفنانين بالغرب يرسمون الواقع- مايكيل انجلو، ليوناردو دافينشي، اليونانيين القدماء، الرومان، كلها واقع. نحن الشرق لم نقلد ما تراه العين بل فهمنا للانسان، للطبيعة، للحياة، وبالتالي، كان هذا التحوير والتغيير بشكل الانسان والطبيعة. هذا من أحد الامور العظيمة التي قام بها الشرق والتي ميزت فنون الشرق، وأظن بأنني امتداد لهذا- أنا لا ارسم ما تراه عيناي انما فهمي للأمور.
حتى أن معظم الشخصيات تظهر بلوحاتك بدون معالم او ملامح.
صحيح، فقط شكل.
هذه النظرة الشرقية هي واحدة من الامور العبقرية وهي ترجمة للفلسفة. نحن آمنا بالروح وبأن الانسان يخلد ويعيش حياة أخرى. لهذا ففي الحضارة الفرعونية القديمة مثلاً كانوا يدفنون الملوك مع عبيدهم لكي يستمروا في خدمتهم بعد مماتهم.
والشخصيات المحلقة ماذا تعني من ناحيتك؟
هي امتداد لنفس الفكرة والتي تظهر كثيراً بالحكايات الشعبية. الايمان بالغيبيات، بالماورائيات، بأن روح الانسان تحلق في السماء وربما تعيش حياة أخرى. انظري مثلاً قصص ألف ليلة وليلة، فيها الكثير من التحليق وبساط الريح وما الى ذلك. هذا التحليق أظن جزء من ثقافة المنطقة والمكان. ممكن ان تعبر هذه الشخصيات عن الحرية، الانعتاق، حياة أخرى، وهي بكل الأحوال جزء من ثقافة المكان ذلك عدا عن اننا عندما كنا أطفال كنا نحلم دائماً بالتحليق.
اذا قد يكون ذلك الطفل في داخلك الذي ما زال يحلم بالتحليق؟
دائماً أطير في الليل- عندما أخلد الى النوم!
من هي الشخصيات التي أثرت عليك؟ كانت بمثابة وحي او قدوة؟
والدي ووالدتي من الناس اللذين أثروا في كثيراً. هناك أيضاً أبو رياض وأبو علي من المخيم، كلاهما أصبحا في ذمة الله. أحاول أن أتذكر لكي أكون صادقاً. بالمجال الفني، انكشفت على كل المدارس- الانطباعيين والسرياليين والتعبيريين. الفنون القديمة أثرت في، وكذلك الحضارتين الفرعونية والآشورية بنظرتها للحياة وطريقة تعبيرها. بالفلسفة والرؤيا علي بن أبي طالب أثر في. شعرت بأنه كان رجلاً عميقاً ونظيفاً فهم الحياة. روحه كانت جداً عميقة ووصل الى مراحل عالية من الاشراق. تأثرت أيضاً بزنوبيا وبكليوبترا. كل شي أثر في. هناك فنان مصري احبه اسمه عبد المنعم مطاوع كان يسكن في كفر الشيخ. لا توجد الكثير من المعلومات عنه ولقد توفي صغيراً. كان معروفاً ربما بين الاوساط الفنية ولكنهم يغارون منه لذلك يحاولون دفن أعماله. كل فنان سرق منه شيء فبالتالي هم اليوم يقومون بإهماله ولا يريدون الحديث عنه. كذلك الفنان العربي سعيد العدوي أثر في. عدا عن ذلك فقد رأيت كم هائل من الفن بالعالم.
سافرت كثيراً؟
كثير! لم يبقى مكان لم أزره. اوروبا كلها وأمريكا والصين. لم يبق إلا الهند وأفريقيا، أخاف أن اسافر الى هناك خوفاً من أن يصيبني مرض.
هل تفكر بمشروع كتابة جدي؟
ممكن. لا أعرف متى. ولكنني أكتب كل الوقت. كل شخصية هنا (في “غبار، حوار، حديد”) يوجد بجانبها نص. مثلاً لوحة مريم والتي تخيلتها فتاة من غزة لقيت حتفها فكتبت عنها:
“سمعت همسات وهمهمات في سوق الشيخ رضوان بين الباعة المتجولين. كلهم قالوا شهيدة. أنا ميتة ولا ارغب في الموت. انا من مخيم الشاطئ. احب الحياة. يؤذيني القشب على أطراف يدي من برد غزة، ولكني أحب الحورور ورذاذ الماء المجمد في الشتاء. كنت أصحو مع خطوط الضوء الاولى، امشط شعري واكوي القبة والشبرة، وارتجف حبًا لرؤية هذا الغريب القريب من بيتنا، نتبادل النظرات ولم نتكلم قط. انا لا اريد الموت. انا مريم ابنة الرابعة عشر. وجدوني بين الركام في الرابع عشر من يناير. كنت ميتة بأحلامي، وعندما مت كنت خائفة بلا خبز وبلا ماء وبلا حكاوي الشتاء ودون حمام. تحدثت ونزفت مع الغريب في الحادي عشر لشهر يناير لعتمتين واشراقة الشمس.”
هذه كانت عن حرب غزة. شخصية أخرى تخيلتها ابنة ملك من ملوك الطوائف، ولكل شخصية قصة.
هل بدأت بالكتابة قبل الرسم أم العكس؟
بعد. صرت ألجئ للكتابة عندما لا يعينني الرسم على التعبير.
هل هناك أعمال تشعر بأن لها “معزة خاصة”؟ أعمال هامة أو ناجحة بنظرك؟
هناك اللوحتين الصغيرتين من سنة 1989 (هنا وهنا)، والصندوق طبعاً الذي أحبه كثيراً، وكأنه جزء مني كان يجب ان يخرج إلى العالم. هناك عمل آخر عن أمي (مرفق مع الصور) عملت عليه بنفس فترة الصندوق. هناك أيضاً أعمال من فترة انشغلت فيها بالاندلس وأقمت معرضاً خاصاً احتوى على كتابات أيضاً.
هل تمكنت من زيارة غزة للمشاركة في جنازة الوالد؟
نعم. بعد ذلك كانت المرة الأخيرة التي دخلت فيها غزة بسنة 2000 ولم أدخل مرة أخرى إلا قبل ثلاثة أسابيع! 16 سنة!! لم أحصل على تصريح.
هل لديك قائمة بكافة المعارض؟
معظمها او لنقل أهمها موجودة بالسيرة الذاتية (مرفق)- منها 3 معارض بالقدس، معرض بفيينا، بسان باولو في البيانلي بالبرازيل، في السكاكيني، المحطة، الحلاج. كل هذه كانت معارض فردية أما المعارض الجماعية فهناك الكثير الكثير، في دبي، في قطر وغيرها.
أين أقيم المعرض الأول؟
المعرض الاول اقيم بعد عودتي من الدراسة في مصر حيث سكنت فترة في دير غسانة وهي من أجمل البلدات برأيي خاصة وأن فيها الكثير من التاريخ. وقد أقيم المعرض حينه في ساحة البلد وحضره نبيل وسلمان وغيرهما.
معرض الأسرى كان مختلفاً عن البقية؟
صحيح، كان عملاً تركيبياً. كانت هناك صبية اسمها مديحة تعمل معنا بالأعوام 2003-2004، وكانت تحدثني عن والدها المعتقل بالسجن. وقد تعمقت بالحديث حتى اتضح بأنه سجن وهي طفلة ما زالت ابنة 5 سنوات. وقد كان يربيها من خلال الرسائل حتى أنه كان يعلمها العربية والحساب عبر المراسلة! “انفطر قلبي” من هذه الرسائل خاصة وأنها كبرت وأصبحت شابة وعلاقتها مع والدها تدور كلها عبر الرسائل. ف”لعبت القصة براسي” وبدأت أبحث عن رسائل السجناء وأزور المؤسسات وأجمع الرسائل المهمة وأصورها. استمر ذلك مدة سنتين فقد عدت الى ما قبل ال-48، من ثورة ال-36 حتى ال-2005. قرأت ما يقارب ال- 14 ألف رسالة! “ما صدقت امتى اخلص من هذا العمل” فقد رافقه وجع كبير، “تنهنهت بالعربي”. كنت أخبأ الرسائل هنا في المرسم وكان ابني ورد (عمره اليوم 20 عام ويتعلم في استراليا) في السابعة من عمره، وقد وجدته حزيناً وبائساً بأحد الأيام. عندما قمت بمراقبته اتضح لي بأنه يعود من المدرسة ويذهب الى الزاوية التي وضعت فيها الرسائل ويقرأ بعضها. يبدو بأن ذلك أحدث الكثير من اللخبطة في نفسه فعندما أمسكت به بأحدى المرات وهو يقرأ الرسائل بدأ سيل من الأسئلة- ما هي فلسطين ومن هم اليهود واللاجئين والخ والخ. شعرت بأنه كبر وهو ما زال طفلاً صغيراً لا سيما وأنه أصر بأن يعمل معي في المعرض وقد قام بذلك فعلاً حتى أصبح عمره تسع سنوات وحضر الافتتاح معي في عمان. كتبت له كلمة شكر في المعرض حينها ووضعت صورته وهو يعمل معي.
شكر الى ابني ورد،
حملتك ثقل هذه الامانة، الطبة والشعر والكهانة، محبة تلك أم خيانة؟ بكرت اكثر مما تحتمل وحملت معي قبل الأوان ما لم يحتمل. جرحت بكارة الطفولة. حلقت مع جرحي وانجرحت. بكيت يا ابني وأبكيتني. قرأت معي وفتحت ألف سؤال وأدماك سؤال واحد: لماذا هذا الظلم يا بابا؟. عشقت أصابعك الطرية وهي تجرح الزجاج. اغرورقت عيناي. ادماني دم الزجاج على يداي. كنت عاشقاً بالفطرة للحق فعشقت روحك. رافقتني بشغف وبراءة. نفضت الغبار عن ألعابك أكثر من مرة. تسللت معي في التفاصيل. قاومتك واشتريت العاباً جديدة. ظننتك طفلاً صغيراً وأحببت أن تكون فكنت قدرك وقدر أجيالك على شواطئ المتوسط وفي فلسطين ان تكبر قبل أن يكبر أطفال العالم.
لديك المزيد من الاولاد؟
4 اولاد. هناك أيضاً عدي البكر (25 عام) الذي أنهى تعليمه بالسينما والتلفزيون والراديو، وخليل الذي ما زال امامه فصل واحد لإنهاء التعليم الجامعي، والصغير الذي ما يزال في سن الابتدائي.
وزوجتك؟
رجاء تعمل في وزارة الخارجية برام الله. كانت ترسم وهي شابة ولكنها توقفت، انشغلت بالحياة.
هذا السبب الذي جعلكما تلتقيان؟
لا، كان زواجاً تقليدياً صراحةً.
ماذا عن “زرياب”؟ (المطعم الذي يمتلكة في وسط رام الله)
زرياب سوف يتحول قريباً لمقهى جاليري. “زهقنا من تحضير الأكل، خلص!”.
هل هناك أية أعمال هامة نترقبها قريباً؟
هناك عمل ضخم (5×2 متر) سيتم عرضه في متحف ياسر عرفات في المقاطعة. بالإمكان القول بأنه عمل سياسي بامتياز فهو يصور الكثير من حياة شعبنا كالحرب على غزة، خروج ياسر عرفات من المقاطعة والخ .