استضافت مؤسسة “انتركولتي لتعزيز الحوار بين الثقافات”، في مستعمرة الفن الدولي في هنغاريا، هذا الشهر، لقاء تشوكاكو (٧+ ١ من رواد الفن الفلسطيني المعاصر) في الدورة الثالثة – دورة كمال بلاطة، والتي توجت يوم الخميس الماضي، بمعرض ختامي ضم أعمال هؤلاء الرواد المنتجة خلال فترة الإقامة الفنية. “رمان” تواصلت مع عدد من ضيوف هذه الدورة ومنظمها فكان هذا التحقيق..
بداية تحقيقنا كانت مع منظم الدورة الثالثة الدكتور أمير عابدي، مدير مؤسسة “انتركولتي لتعزيز الحوار بين الثقافات”، والذي أجاب عن تساؤلنا حول دوافعه لتنظيم مثل هذه الاقامات الفنية لفنانين فلسطينيين وعرب من أماكن جغرافية مختلفة كل عام في هنغاريا؟ فقال: المشروع المقام هو حدث مميز في واقع الإبداع الفلسطيني المقيد بمحيط من العداء البيئي يمثل بالدرجة الأولى السلطة القمعية بالأساس، وفكرة إقامة لقاءات لمبدعين فلسطينيين خارج حدود الوطن و”الأوطان” جاء ليعطي المبدعين فرصة التلاقي من شتات الغربة والتشرد، من داخل الوطن مع من تشردوا خارجه، في لقاء متجدد وفي مكان قد يعطي فرصة ولو صغيرة، لسرد الحكايات وإعادة لحمة القربي والتشبيك الاجتماعي.
يضيف عابدي: اللقاء وفي هذه الحال في هنغاريا جاء ليعطي الفرصة أيضاً للتعرف على جوانب ثقافية وحضارية لتاريخ المكان أفراداً ومجتمعات. إن هنغاريا تمثل الوطن الثاني لصاحب الفكرة كونه فلسطيني من جانب والده (الرسام عبد عابدي المولود في حيفا فترة الاحتلال البريطاني لعائلة فلسطينية عريقة الانتماء)، ولأم هنغارية متضامنة مع شعبنا الفلسطيني.
نسأل مُحدّثنا: من خلال تجربتك أيّ أفق تفتح مثل هذه الإقامات للتشكيليين الفلسطينيين حيث العمل في بيئة مختلفة بعيداً عن عسف الاحتلال؟ فيجيبنا: هذا هو اللقاء الثالث في هنغاريا، سبقه اللقاء الأول الذي جمع رواد الفن الفلسطيني ومنهم إبراهيم هزيمة اللاجئ في برلين (أصله من عكا)، وسليمان منصور، ونبيل عناني من الضفة الغربية المحتلة، وتيسير بركات من مخيمات اللجوء في غزة، وهو يعيش حالياً في رام الله، وعبد عابدي، وأسد عزي من الداخل الفلسطيني المحتل.
تبعه اللقاء الثاني قبل عام وكان مع جيل من المبدعين الشباب، ويأتي اللقاء الثالث المنعقد في هذه الأيام هنا ليحمل رسالة الإبداع لمحيطات أخرى قد تعوض ولو القليل في إمكانيه إيصال والحوار لأماكن أخرى، ومن شأن ذلك تقوية العلاقة بين جموع من فرقهم الاحتلال، ومن قمع ذوي القربي في دول الجوار.
الفنان بشار الحروب (رام الله)، كان أول من أجابنا عن الأسئلة التي وجهتها “رمان” له ولأربعة من زملائه الفنانين، وهي: ما هي أهمية الإقامة الفنية بالنسبة للفنان الفلسطيني الذي يبدع عادة في مكان خاضع للاحتلال؟ وأيّ أفق تفتح مثل هذه الإقامات للفنانين حيث العمل في بيئة مختلفة بعيداً عن عسف الاحتلال؟ وكيف تخدم هذه الإقامة مشروعك الفني الإبداعي بشكل خاص؟ ومن ثم ما هو عملك المنتج خلال فترة إقامتك؟
يقول الحروب مجيباً: بالتأكيد المكان له أثره على طبيعة الإنتاج الفني لكن الإبداع كعملية موجود في كل مكان مع اختلاف الظروف سواء كانت تحت الاحتلال أو غيره. لكن هذ العملية بالتأكيد تتأثر بطبيعة الظروف سواء من حيث المفاهيم المتطرق إليها، أو أحياناً طبيعة الوسائط التي تستخدم في الإنتاج.
برأيي، الإقامات الفنية مهمة للفنان بشكل عام من حيث اختبار أماكن وثقافات مختلفة من جهة، ومن جهة ثانية الاحتكاك بتجارب جديدة تساعد الفنان على فتح آفاق جديدة في عمله من خلال التواصل المباشر وتبادل الخبرات والتجارب الفنية الأخرى.
تكمن أهمية هذه الإقامة بالنسبة لي من حيث هي خارج فلسطين، وفي ذات الوقت كونها تستطيع جمع الشتات الفلسطيني، فنحن كفنانين لا نستطيع جميعاً الالتقاء بفلسطين جراء التشرد واللجوء وتوزعنا في جغرافيات مختلفة نتيجة الاحتلال الإسرائيلي لأرضنا منذ عام ١٩٤٨ واستمرار هذا الشتات.
كما أنّ هذه الإقامة الفنية هي الأولى من نوعها خارج فلسطين، ما يجعلها ذات أهمية من حيث الرسالة التي تريد أن تأكدها تجاه الفن الفلسطيني والثقافة الفلسطينية بشكل عام، وانفتاحها على الثقافات الأخرى.
كذلك أرى أنّ هذه الإقامة تمنحنا فرصة مهمة كفنانين فلسطينيين لا نستطيع الحصول عليها في وضعنا الطبيعي نتيجة الظروف التي ذكرتها سابقاً، فمن خلال هذا اللقاء نتبادل الخبرات والتجارب وكذلك النقاش والحوار حول الفن الفلسطيني بشكل خاص، وعلاقته بالمنتج الفني بالعالم بشكل عام. إضافة إلى التعرف على بعضنا البعض عن قرب والبحث معاً في مشاريع مستقبلية.
يختم بشار الحروب قائلاً: بالنسبة لي هذه الإقامة الفنية هي استمرار لمسيرتي الفنية وتجربتي، التي تركت فيها الإقامات الفنية في أماكن مختلفة من العالم أثراً واضحاً من خلال ارتباط جزء كبير من إنتاجي الفني بمدن متعددة، فأصبحت كالمشاء لا جغرافيا تحكم عملي.
فاطمة أبو رومي
من جهتها قالت فاطمة أبو رومي (طمرة): من المعروف للجميع بأنّ الاحتلال وباء وعدو للشعوب. شعبنا الفلسطيني محتل ويعاني منذ إقامة دولة “إسرائيل” على أرض فلسطين، معاناة لا تنتهي طالما يسعى المحتل باستمرار إلى محو هوية شعبنا وثقافته، ويعمل على تفكيك أسسه الاجتماعية.
بنظري، أحد الأهداف التي ترتكز عليها هذه الإقامة هي جمع الشتات الثقافي والاجتماعي، لأنّ حربنا مع المحتل ومع باقي دول العالم التي تسمّى بـ “العالم الثالث”، لا بل وللتوضيح بـ “العالم الثالث الإرهابي”، أنت عربي إذاً أنت “إرهابي”، أنت مسلم إذاً أنت “إرهابي”، أنت فلسطيني إذاً أنت “إرهابي”.
هذه الإقامة تقوم بدورها برفض كل هذه الاتهامات لوجود مجموعة من الفنانين الموهوبين، المثقفين الذين يعبرون بكلامهم وفهمهم للأمور بما يدحض ما يروج عنا، ذلك أنهم يترجمون فهمهم لهذه الأمور بأعمال فنية لا تقل أهمية عن أيّ فنان كان سواء في أوروبا أو في أمريكا، وهذا بنظري انتصار.
هذه الإقامة، وهذا اللقاء المشوق، هما انتصار للثقافة الفلسطينية وللفنان الفلسطيني، ويقوم بفتح آفاق كثيرة للتواصل الفلسطيني – الفلسطيني، ولتعزيز وربط العلاقات بين الفنانين الفلسطينيين في كل مكان.
أما عن العمل في بيئة مختلفة بعيداً عن عسف الاحتلال. فإنه وكما يعرف الجميع، الاحتلال لا يتركنا بحالنا، لا صغيرنا ولا كبيرنا، إنه يجثم على صدورنا ويتحكم بشهيقنا وبزفيرنا “والحكي مش مثل الشوف”. لذلك أنا وزملائي هنا نتمتع بجمال الطبيعة الخلابة وخضار الحقول والبيادر، مما يجعلنا نتنفس الصعداء لنستطيع أن نفهم العالم ونفهم أنفسنا من خلال هذا الفضاء الطبيعي، بالرغم من كل الهموم والمشاكل التي يخلفها الاحتلال، ذلك أنّ هذه الهموم تلازمنا في حقائب سفرنا أينما حللنا.
تتابع فاطمة قائلةً: بالنسبة لي تخدم هذه الإقامة مشروعي الفني وتطوره من خلال الحوار الذي لا ينقطع بين الفنانين على مدار أيام الإقامة، وهذا يثري العمل والمسيرة الفنية الذاتية الجماعية. كما يعزز الحوار بقول الرأي وسماع الرأي الآخر، وهذا بنظري إنجاز وثمار سآخذها معي زاداً لطريقي الطويلة.
تختم مُحدّثتنا بالقول: لا بد من كلمة شكر للأستاذ الفنان القدير عبد عابد وزوجته وابنه أمير، الذين فتحوا قلوبهم وبيتهم وهيؤوا للجميع الراحة والمواد اللازمة للعمل واللقاءات وزيارات للمتاحف والأمسيات الشيقة. كما أشكرهم لاختيارهم لي لأكون ضمن هذه المجموعة الرائعة والمميزة.
بشير قنقر
بدوره أجابنا بشير قنقر (بيت لحم / فيينا)، قائلاً: الإقامة الفنية بالنسبة للفنان هي المكان الآمن للابتكار والإبداع، والخروج عن الإبداع النمطي الذي يحدّ الفنان في مشاريعه الخاصة. وهي أيضاً المكان الأفضل للحوار الثقافي، حيث يعمل الفنان مع مجموعة وضمن بيئة إبداعية ذات خصوصية.
أما بالنسبة للفنان الفلسطيني فهي فرصة للخروج إلى عالم آخر غير عالم الاحتلال، أي العنف والحواجز وكل ما هو قبيح. كما أنه فرصة ليعيش تجربة جديد من الممكن أن تكون محفزة لمخيلته وتفتح أمامه مشاريع مستقبلية لم يكن يفكر بها من قبل. بالإضافة لكونها مكان مميز لالتقاء الفنانين بشكل مباشر بعيداً عن العالم الافتراضي ومواقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك” وغيرها.
أما عن تجربتي الشخصية، وبكوني فنان مقيم في النمسا، فهي فرصة لي للتعرف على فنانين من بلدي فلسطين، ممن لم أكن قد التقيت بهم من قبل.
بالنسبة لأعمالي المنتجة في هذه الإقامة فهي عبارة عن مزيج من الأعمال (المشاريع) التي عملت وأعمل عليها، محاولاً الخروج عن النمط السائد، وذلك بالبحث والوصول بالأعمال إلى مكان آخر. وأنا سعيد كوني قمت بإنتاج أعمال فيها روح من أعمالي القديمة عملت على تحويلها إلى أعمال تجريدية تحافظ على نفس الرونق والحياة. وهي أربعة أعمال، منها ثلاثة أعمال متصلة ببعضها بحجم كلي ١٧٧سم X ٤٤٠سم، بالإضافة إلى عمل بحجم ١٤٥سمX ١٨٥سم. كما أنجزت بعض الأعمال ذات الأحجام الصغيرة.
فؤاد أغبارية
أما فؤاد أغبارية (أم الفحم) فقال: الإقامة الفنية تشكل حالة خروج عن المألوف في حياة الفنان، الانعتاق عن البيئة الروتينية والمكبلة في بعض الأحيان لتدفق المشاعر والرؤية الفنية.
الإقامة الحالية في قرية هنغارية وديعة وصغيرة، تحيطها الغابات والسهول، كروم العنب وأنواع مختلفة وكثيرة من الأشجار المثمرة، والهدوء يسيطر على الأجواء في أغلب الأحيان، هذه الصورة المرئية لتضاريس وحالة المكان تنعكس بدون أدنى شك على نفسية ورؤية الفنان وتدخله للنشوة الفنية بقوة.
لا شك بأن التواجد في الوطن يمدك بالطاقة الإيجابية في كثير من الأحيان، ولكن حالة الصراع والكبت، والمواجهات المتكررة مع الاحتلال، ناهيك عن الضغوطات الاجتماعية والنفسية تشكل عائقاً أحياناً للفنان. هنا يتاح لك متنفس لاسترجاع الطاقة وتأجيجها في إطار أعمال فنية حالية ومستقبلية.
الإقامة الفنية تشكل حالة انخراط جديد في عالم مفتوح، اللاحدود في الإحساس تجاه خوض مغامرة فنية جديدة مع مجموعة فنانين متنوعين بأطيافهم الفكرية والفنية، اللقاء الفني، النقاش الخاص المتحول تدريجياً لنقاش فني وحوار يخوض في حيثيات العمل المنجز لكل فنان وفنانة.
برأيي البيئة المؤقتة تتيح للفنان محاولة استغلال المحيط الجديد ومحاولة الدخول إليه والخروج منه بعمل فني، يتأثر بلا شك فيه بالرؤية والبيئة الأصلية والخاصة لدى الفنان.
الأعمال المنتجة في إطار الإقامة الفنية تدمج ما بين العالم الشخصي، ذكريات ترتبط بالمكان والوطن، باستعمال “موتيفات” وعناصر تخص الوطن والذاكرة الشخصية، وإدخالها في حيز التأثر بالمكان الجديد.
لا شك أنّ هذه المشاركة الجميلة والممتعة، أضافت في سجل سيرورتي علاقات جديدة تشمل فنانين وأشخاص أثروا بي بشكل إيجابي وجميل. وكنت سعيداً بالتغطية الإعلامية، وتوثيق المشروع بتقنيات حديثة، من ضمنها إنتاج فيلم يوثق المشروع سيشكل نقطة ضوء جداً مهمة على الصعيد الفني، وسيتيح للعالم التعرف على الفنان بوسائط حديثة ومتطورة.
أمجد غنام
في الختام، اكتفى أمجد غنام (القدس)، بالقول: تكمن أهمية الإقامة الفنية في المساحة التي تمنحها للفنان بعيداً عن الالتزامات اليومية وتفتح بيئة مغايرة لما نعيشه تحت الاحتلال، رغم إيماني أنّ الإنسان يستطيع أن يبدع أيضاً وبطريقة مغايرة وربما بقوة أكثر وهو يعيش تحت الاحتلال. برأيي، تخدم الإقامة مشروع الفنان من خلال أجواء الحوار والتفاعل مع الفنانين الآخرين، ومن خلال الطاقة التي يبثها العمل المشترك.
خلال إقامتي هذه انتجت عمل بعنوان two landscapes عن المشهد الطبيعي هنا وجماليته بدون منغصات الإنسان، كتلك التي شوهت المشهد الطبيعي في فلسطين بسبب بناء الاحتلال لجدار الفصل العنصري.